بغداد - بعد ساعات من إعلان الجيش استعادة السيطرة على الساحل الشرقي للموصل من المتطرفين أواخر كانون الثاني/يناير الماضي دخلت قوات أمنية غريبة إلى المدينة قادمة من بغداد تعرف محليا باسم "جهاز الأمن الوطني"، رجال ملثمون على أكتافهم أسلحة خفيفة وحواسيب محمولة بين أيديهم، ومهمة هؤلاء تصفية حسابات معقدة مع عناصر تنظيم الدولة الإسلامية، وهي مهمّة ليست بالسهلة وسط نصف مليون شخص. "منذ شهرين، لا يمر يوم من دون أن نعتقل عناصر في داعش أو متعاونين معهم في شرق الموصل"، وفقا للضابط في الأمن الوطني علاء الزيدي، ويقول إن "المهمة صعبة والبحث عن المتطرفين وسط نصف مليون شخص يسكن الأحياء الشرقية من المدينة يشبه البحث عن إبرة في كومة قش". ويضيف الزيدي أنه عندما اقتحمت قوات مكافحة الإرهاب الأحياء الشرقية للموصل هرب مقاتلو تنظيم الدولة من الأجانب إلى الجانب الأيمن عبر نهر دجلة الذي يشطر المدينة إلى نصفين، بينما تنكّر المقاتلون المحليون بين الأهالي، حلقوا لحاهم وتخلصوا من الأدلة التي تثبت تعاونهم مع المتطرفين، حتى إن بعض هؤلاء خرجوا لاستقبال الجيش فرحين للتمويه، ولكنهم في الحقيقة مجرمون تورطوا في قتل العشرات من سكان الموصل وبعضهم ما زال يدعم الجهاديين ويعمل في الخفاء عبر خلايا نائمة. وجهاز الأمن الوطني مؤسسة أمنية مستقلة تأسست بعد 2003 ولها مهام استخباراتية أكثر منها عسكرية ويترأسها مستشار الأمن الوطني فالح الفياض، وبدأ عناصر الجهاز حملات تفتيش في شرق المدينة بحثا عن خلايا نائمة تثير قلق السكان. وفعلاً وقعت هجمات انتحارية استهدفت تجمعات سكانية في شرق الموصل شملت مطاعم وأسواقاً تجارية بعد ثلاثة أسابيع فقط من إعلان طرد المتطرفين منها بالكامل، وتمت الهجمات فيما كان آلاف الجنود من قوات الجيش والشرطة ينتشرون داخل المدينة. وتكمن المشكلة التي تواجه "جهاز الأمن الوطني" في عدم امتلاكه قاعدة بيانات رصينة حول المتطرفين والمتعاونين معهم، فالموصل خرجت عن سلطة الحكومة العراقية لأكثر من عامين وانهارت القوات المحلية بشكل كامل، كما أن تنظيم الدولة قتل المئات من عناصر الجيش والشرطة لمنع خروج معلومات من المدينة. ولحل هذه المشكلة اضطر "جهاز الأمن الوطني" خلال الأسابيع القليلة الماضية أن يجنّد عدداً من السكان الذين عاشوا في المدينة تحت حكم المتطرفين للعمل كمخبرين، ومهمة هؤلاء تقديم معلومات عن المتطرفين داخل المدينة، وغالبا ما يرافق المخبرون الجدد قوات الأمن خلال مداهمة الأحياء بملابس مدنية ويمكن التعرف عليهم من أنهم ملثمون بالكوفية العربية خوفا من التعرف عليهم وتعرضهم للانتقام كما يقول الزيدي. إضافة إلى المخبرين نشر عناصر الأمن الوطني أرقام هواتف في غالبية الأحياء وعند نقاط التفتيش لتشجيع السكان على الإبلاغ عن المتطرفين، وهناك معلومات جيدة تصل من الأهالي عبر الهاتف ولكنها محدودة لا ترقى إلى طموح القوات الأمنية، ويرى الزيدي أنه "ربما السكان خائفون من زج أنفسهم في هذه القضية خوفا من الانتقام". وليد الجبوري أحد سكان حي الكرامة شرق الموصل اعتقلته القوات الأمنية الشهر الماضي بتهمة التعاون مع الجهاديين، وتم نقله والتحقيق معه عند أحد مقرات الاستخبارات التابعة إلى وزارة الداخلية جنوب المدينة، وجرى التحقيق على يد ضباط محترفين وقرروا إطلاق سراحه بعد أن أثبت لهم بأنه غير متعاون مع الجهاديين. ويرافق عناصر الأمن الوطني داخل الموصل مقاتلون من الفصائل الشيعية يتصرفون بفظاظة ويثيرون الخوف في نفوس السكان المحليين، ويرفعون راياتهم الخاصة ويتجولون بعجلات رباعية الدفع يصدر عنها أصوات عالية لأناشيد وأغان دينية وفقا للجبوري. الجبوري اختار عدم العودة إلى منزله داخل الموصل وفضّل البقاء في مخيم للنازحين خارج المدينة تشرف عليه الأمم المتحدة، وانضمت إليه عائلته لاحقا، ويقول "الوضع مخيف شرق الموصل هناك فوضى وعمليات انتقام، مخبر سري اتهمني زورا بأني متعاون مع المتطرفين، ولكنني أثبت براءتي، داعش قتل أخي الذي كان يعمل في الشرطة، وتعرضت أنا للجلد بسبب التدخين، كيف يعقل أن يسمح المتطرفون لي بالعمل معهم ولديهم شكوك حولي". وقضى الجبوري أسبوعين في معتقلات مؤقتة شيّدت جنوب المدينة قبل إطلاق سراحه، ويقول إن "ظروف الاعتقال سيئة، يوميا يتم جلب العشرات من المعتقلين، أعرف بعضهم بشكل شخصي وهم أبرياء، ويبدو أن الاعتقالات تنفذ عشوائيا وبطريقة وبدائية بدون ضوابط واضحة". أما قاسم العبيدي الذي اعتقل أيضا لأيام قبل إطلاق سراحه يشكو من غياب الضوابط الإنسانية في فرز المتطرفين، ويقول إن "ضباط التحقيق لا يأخذون في الاعتبار أن هناك المئات من السكان أجبرهم داعش على العمل معهم في أعمال مدنية، ويتم اعتبارهم كالمتهمين بعمليات القتل ومبايعة داعش، هذا غير منصف ويثير قلقنا". يضيف العبيدي "العشرات من السكان اضطروا للعمل مع داعش في وظائف مدنية لإعالة عائلاتهم وإلا ماتوا جوعا، فمثلا هناك من عمل في تنظيف الشوارع ورفع النفايات داخل الأحياء وتصليح مضخات الماء ومولدات الطاقة الرئيسية في المدينة، هل من العدل اعتبارهم متطرفين"؟. وثائق داعش كنز معلومات لا تقتصر مهمة "جهاز الأمن الوطني" على اعتقال المتطرفين بل أيضا البحث عن مقرات تنظيم الدولة الإدارية ومصانعه العسكرية للحصول على أي معلومات تقود إلى معرفة أسرار التنظيم، ولهذا تواصل الدوريات الأمنية عمليات بحث في المناطق المأهولة وكذلك عند الضواحي المهجورة. وأعلنت القوات الأمنية الأسبوع الماضي العثور على أكبر معمل لصنع العبوات الناسفة والصواريخ شرق الموصل كانت مدفونة عن الضواحي، وعثر على المعمل وفق معلومة استخباراتية. لكن اكسر ما يثير حماسة عناصر الأمن هي وثائق التنظيم المتشدد ومراسلاته فهي كنز من المعلومات وفقا للنقيب في الجيش عمران الخزاعي، ويقول "حتى الآن عثرنا على آلاف الوثائق السرية لتنظيم داعش شرق المدينة وهي الأكثر أهمية بالنسبة لهذا التنظيم لان الموصل كانت عاصمته وفيها كانت تدار شؤون دولته في العراق وسورية". ويضيف الخزاعي "قبل أيام عثرت القوات الأمنية على أكثر من 3 آلاف وثيقة مهمة في منطقة المثنى شرق المدينة، تمثل الصندوق الأسود لهذا التنظيم الإرهابي، تحوي على أقراص مدمجة وأجهزة حاسوب محمولة ووثائق ورقية تحوي أسماء الآلاف من مقاتلي داعش وعناوينهم وجنسياتهم في العراق وسورية، وسجلات مالية حول تجارة داعش". دراسة آلاف الوثائق وتحليلها ويحتاج إلى أشهر وربما سنوات كما يقول الخزاعي، ويضيف أن "هذه الوثائق تنقل من الموصل إلى بغداد، وهنا في العاصمة تقوم أجهزة أمنية مختصة بتحليلها والاستفادة منها للوصول الى أسرار التنظيم".(نقاش)
مشاركة :