من الفكرة الأصيلة إلى ضلال السينما

  • 4/7/2017
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

الفكرة ضالة السينمائي. الفكرة الأصيلة، أقصد. تلك التي تجعل عملاً ما متميزاً في محيط فني خاص. عبد الإله الجوهري، الناقد والسينمائي وجد هذا الضلال/الفكرة، في عمله المطوّل الجديد، «رجاء بنت الملاح، وتحديداً في شخص فتاة تخرج عن المألوف بما عاشته في لحظة ما من الزمن بسبب السينما. هي التي لم تكن تعرفها ولا فكرت يوماً في دخول معمعتها الطاحنة. مصير إنساني طبعه وشكله بعض السعادة اللحظية والتعاسة الدائمة. هي الفكرة إذن: الفن السابع ليس إلا الكثير من الضلال والقليل من اللمعان، بخاصة إذا ما لم يكن الاعتقاد مهيئاً له قبلاً بالمناعة اللازمة.   بين الأحمر والأسود رجاء بنسالم فتاة مغربية تقطن مدينة مراكش التي تكون أحياناً حمراء وأحياناً سوداء. ذات يوم التقطتها عين مخرج فرنسي متميز هو جاك دوايون الذي كان يبحث لبطل له فرنسي عن شريكة محلية من البلد تحمل كل مواصفات المحلية مع قدر كبير من الممناعة والعناد والعفوية وحب الحياة، وذلك في تناقض تام بين هذه كلها لخلق قصة مراكشية لمقيم فرنسي في رياض له سمة الغرائبية الشرقية المبحوث عنها من طرف الغربي. فكان الفيلم «رجاء» الذي جدد به مشواراً سينمائياً فردياً حين اقتنص الفتاة. كان مخرجاً مبدعاً وكان يبحث عن شخصية مفارقة سينساها بالطبع حالما تؤدي دورها. وهذا قدر الإبداع وقدر المبدع. وهذه الشحصية بالذات هي التي سيحضنها المخرج عبد الإله الجوهري، لكن في سجل إبداعي مخالف تماماً. من الواقع الحي الذي سترمى فيه الشخصية بعد نهاية أضواء التصوير البراقة، فكان أن أعادها إلى النور لكن عبر النوع الوثائقي الذي اتخذ له شكل الملاحظة اللصيقة والتتبع الحثيث من بعيد من دون السقوط في الذاتية أو الانخراط في الإدلاء بموقف أخلاقي أو إيديولوجي. كان يرصد من زاوية شخصيته لا غير التي ملأت الصورة بالكامل.   مرحلة الضوء لنتذكر رفقة الفيلم. المخرج ناقد إعلامي له كاميرا تسجل كل شيء بعينه العارفة للمجال. سنة 2003 وخلال الدورة الثالثة للمهرجان الدولي للفيلم بمراكش، تمت المفاجأة : جائزة أحسن دور نسائي لنجاة بنسالم. لجنة التحكيم كانت مكونة من أشخاص من عيار ثقيل وبسمة دولية لا يطاولها الشك. أجازت دوراً، فساهمت من دون أن تدري في تعميق تشكيل الشخصية بمنحها أوراق اعتماد فنية دولية. الشخصية فقط هي التي كانت الأساس. وليست الفتاة التي أعارتها جسدها وطباعها وروحها حتى. ومن المفارقات العجيبة التي وقف عندها الفيلم تأكيده ذلك حين نقل إلينا مشهد حفل تسليم الجائزة من دون وجودها جسدياً كي تتسلمها. كما لو لتؤكد ما قلناه. سنعرف السبب في ما بعد حين ستحدثنا نجاة التي أصبحت رجاء بقوة السينما. أصبحت الشخصية بعد أن سرقتها من ذاتها الخاصة. الفيلم هو هذا الصراع بينهما معاً. نتابع ذلك بقوة. طبعاً لن تتخلص نجاة من رجاء. التعاسة هنا. وإذن لم تحضر نجاة لأنها كانت تبحث عن طريقة ما كي تدخل إلى قصر البديع الفخم لحظتها وحيث أقيم حفل الاختتام الباذخ. لم تتمكن من الحضور. رجاء هي التي تهم الجميع. الواقع غير السينما. بعد هذه الأخيرة يبدأ الانحدار نحو الهاوية.   العتمة تجد نجاة/رجاء نفسها وحيدة في بيت داخل منزل متهاو بالحي القديم بمراكش رفقة مهمشين آخرين مثلها ورفقة قطط تائهة تطعمها كل صباح. ينقلنا الشريط إلى تفاصيل حياة ممسوحة كالحة بنفس توثيقي له قوة الشهادة. على الواقع المعيش وعلى قدر حياتي عنوانه التجاهل التام. لقد شوهد الفيلم الفرنسي «رجاء» ولقي نجاحاً كبيراً لدى باعة الأقراص المدمجة المقرصنة، ولأن فيه لقطات في بيت نوم غير صريحة وفيه قبلة، أصابته اللعنة وبطلته المراكشية. السينما في مجتمع محافظ لعنة. لن تصرح نجاة بذلك فقد بدت مقتنعة بدورها وشرحت كثيرا أن في الأمر خدعة سينمائية وأنه قصة وأن ما صُوّر كان في بلاتوه، لكن لا أحد صدّق، أصروا أنها هي رجاء. من سيصرح بذلك في شبه استنكار هن نساء أدين أدواراً ثانوية فتم هجرهن. دخلن السينما ولم يدخلن القصة وحين شاهدن الشريط أصبن بالدهشة المرعبة. تمنح كاميرا عبد الإله الجوهري بوحهن الصريح ورضاهن بالمصير الذي رمتهن فيه السينما في شكل سلس مؤثر مع شيء من العفوية والطلاقة في التصوير. الشيء الذي لا يُغيِّب الحزن الكبير الذي شمل روحهن. الجميل أن نجاة/رجاء تحاول ترطيب خواطرهن. لكن حين تختلي بنفسها وتختلي بها الكاميرا يدلف الحزن هذا مدراراً ترافقه دمعات حرّى. نكتشف حينها طينة الفتاة نجاة التي صارت رجاء. في عزلتها بالبيت الذي تهاوى عليها جزء من سقفه ذات ليلة وكاد يقضي عليها لولا الجيران، في هذا البيت تحكي بصبر وبلاغة المشاعر. لا تسب ولا تشتم الظروف والآخرين. فقط تدلي بشهادتها عن الذي صارت إليه بعد هنيهات الضوء والشهرة الخاطفة. وأبلغ ما يدل على ذلك، اللقطة التي تظهر لنا مآل جائزتيها بمهرجان مراكش وجائزتها بمهرجان البندقية الإيطالية التي زارتها وسعدت برؤيتها من فوق الجندول. في هذه المدينة الأخيرة أيضاً أخلفت الموعد. الجائزتان اليوم مكسرتان ووسختان ومن دون ألق. يا له من دليل!   الشارع الطويل ولأنه يجب العيش على رغم كل شيء ينقلنا المخرج نحو العالم الرحب لمراكش حيث تدبر نجاة/رجاء لقمة العيش ببيع السجائر بالتقسيط. لا تكف من السير في الدروب. هنا امرأة نرى. من بطلة إلى باعة سجائر. يصير البدن ثخيناً والشفاه بنية والوجه متغيراً بفعل السنوات. تقضي اليوم بكامله تذرع الشوارع طولاً وعرضاً ترافقها موسيقى النقود المعدنية التي تداعبها في يدها من دون ملل. فلا أحد سيعترف لها بما فعلته في التمثيل. والبعض سيتفهم وضعها المزري. لكن في الميدان الفني أو الحياتي لا مجال لغير المثابرة والصدف مستبعدة كثيراً. هنا نرى الفيلم يحقق شرط عدم السقوط في نوع من الإدانة أو ما يقاربها. لا، يمنح قطعة سينمائية بصيغة وثائقية لا تخلو من عاطفة جياشة نحو الموضوع، لكن في ذات الوقت وظفت أداة الفيلم فيما يمنحه من صور لافتة وجاذبة. هنا ذكاء في تلقف الفكرة وتجسيدها وتمريرها. أعاد عبد الإله الجوهري نجاة إلى ذاتها وحاول تخليصها من رجاء ليس كي ترميها، فذلك مستحيل لأنها جزء من حياتها، ولكن كي تجد الفرق اللازم بينهما، وتعود إلى الحياة بعد اللحظة المضيئة الخاطفة. منح للذكرى القديمة تجسيداً سينمائياً جديداً. وحياتيّاً أيضاً. وهو ما حدث فالمخرج لا يدع مهرجاناً يعرض فيه الفيلم إلا وكانت نجاة بنسالم حاضرة حديثاً وجسداً وفيلماً وثائقياً. تحضر وتتحدث. كما وقع في مهرجان تطوان المتوسطي أخيراً. لقد كتب المخرج فيلماً بعد أن كتب الكثير ولايزال في مجال النقد السينمائي. وسينماه هنا في معطاها التسجيلي، على رغم أنه وظف صورًا ملتقطة قبل أن يجد لها صيغة حكائية مطلوبة، مضخمة بعين الناقد الذي شاهد عديد الأفلام وراكم تجربة مخالطة ومعاشرة للميدان واسعة رحبة. وحتماً سنطالع بعضاً من ذلك في فيلمه الروائي الطويل المقبل الذي هو بصدد إنهاء مراحله الأخيرة.

مشاركة :