بعد مسيرة طويلة من البحث والتأمل، وبعد مئات الصفحات التي قلبتها بين يدي بحثًا عن سر المقالة الأصيلة، وجدت أن العديد من المقالات تفتقر إلى وضوح الفكرة ومتانة الأسلوب. هناك من يجعل مقاله كصندوق أسرار مفتوح، يفضي فيه بما يشعر، كأنه حديث خاص بينه وبين نفسه، مليء بالتفاصيل التي لا تعني القارئ بقدر ما تعني الكاتب، فتغدو المقالة أقرب إلى فضفضة أو اعترافات عابرة.ومنهم من يمزج في مقاله عدة أفكار، كأنه يريد أن يختصر العالم في بضع سطور، فتنفلت الخيوط وتضيع الرسالة، إذ تشتت الأفكار انتباه القارئ وتشغله عن جوهر المقال. بينما آخرون قد يختصرون المعنى إلى درجة الإفراط، فيبدو المقال وكأنه مجرد عبارة مارّة أو جملة عابرة، دون أن تمنح القارئ مساحة للتأمل أو التعمق.وثمة صنف آخر يغرق في الإطالة، فيجعل من المقال سردًا طويلًا بلا جوهر، حيث يتكاثر الكلام دون هدف واضح، فيرهق القارئ دون أن يلمس روح الموضوع أو يتذوق جمال الفكرة.لذا، كان لا بد لي ككاتبة من وضع فلسفة واضحة لكتابة المقالات، فلسفة توازن بين عمق الفكرة وجمال الأسلوب؛ فالمقال الأصيل، كما أراه، هو ذاك الذي يحمل فكرة رئيسية، فكرة واحدة مركزة، تحيطها عناية الكاتب من كل جانب، بحيث تتناول مقالته موضوعًا واحدًا بحكمة ووعي. فعندما يكون المقال حول قضية ما، يجب أن يتبع الكاتب مسارًا منطقيًا متسلسلًا؛ فيبدأ بطرح المشكلة وتوضيح أبعادها، ثم يُحيلنا إلى الأسباب التي أدت إلى نشوئها، لينتقل بعدها بهدوء إلى تقديم الحلول، دون قفزٍ أو تسرّع، حتى يشعر القارئ وكأنه يتجول في بستان الأفكار برفقة من يعرف الطريق بوضوح.أما إن كان المقال هدفه التوضيح أو الشرح، فعلى الكاتب أن يقدّم الموضوع بعناية تليق بمقامه؛ فيعرض المسألة بعمق، ويكشف أسبابها، ويُبدي أهم النتائج التي يمكن أن نتوصل إليها، ليصبح المقال نبراسًا للمعرفة ومرجعًا للبحث.وفي المقالات الخاطرية، التي تُلامس مشاعر الكاتب وتنقل تجربته العاطفية، على الكاتب أن يلتزم بدقة المشاعر، فلا يضيع بين أحاسيس متضاربة، بل يحفر في شعور واحد ويمنحه حقه من التحليل؛ ليشعر القارئ وكأنه يعيش تلك اللحظة ويحس بذات الإحساس. أما حين يُعرض المقال ليُبدي رأيًا أو وجهة نظر، فلا ينبغي للكاتب أن يخاطب القارئ وكأنه يحادثه شخصيًا، بل يجب عليه أن يطرح الموضوع بتجرد وإنصاف، مدعمًا موقفه بأدلة من الواقع، ملتزمًا بالموضوعية التي تجعل مقاله محايدًا، فلا يشعر القارئ وكأنه أمام حوار مغلق، بل كأنه يستمع إلى مناظرة مدروسة تلامس عقول الجميع.هكذا أرى المقالة الأصيلة، تكتمل حين يتمازج عمق الفكرة بجمال الأسلوب، وحين تتدفق كلمات الكاتب كجدول رقراق يصل إلى القارئ بحبكة متقنة ومعنى يلامس الروح، ليحيا المقال في ذهن قارئه ويحرك فيه كل ما هو أصيل.
مشاركة :