يا عزيزي.. كلنا فاسدون

  • 4/7/2017
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

كلما جلست إلى أناس أحدّثهم أو يحدثونني، ويتطرق الحديث بيننا إلى أحوال البلاد والعباد؛ صبّ كلامهم في الحديث عن الفساد، وكلما مررت في الشوارع والطرقات، واستقللت وسائل المواصلات العامة، واسترقت السمع حيناً، وتجاذبت أطراف الحديث حيناً آخر مع أولئك الأفراد، سمعت كلمات من قبيل "الله يلعن أبو ده شعب"، أو "هوّ شعب مصر كده"، أو "شعب ابن ستين.."، أو "شعب فاسد بطبعه".. إلخ. والمثير للجدل أن أولئك الأفراد مهما كانت مكانتهم -من النخب وصناع القرار أو المثقفين وأساتذة الجامعات أو من عامة الناس- فإنهم دوماً يظهرون استياءهم وامتعاضهم الشديد من الحال التي وصل إليها المجتمع من الفساد، ولكنهم في كل مرة يضعون أنفسهم خارج الحسبان، وبعيداً عن الدائرة، في كل مرة يتحدثون إليك وينطقون بالعبارات التي تلقي باللوم على الآخرين، وتظهر المتحدث بدور المدافع المناضل الشريف الذي لا يروقه الوضع، ولكنه لا يملك من الأمر شيئاً، في كل مرة تحسب لأول وهلة أنهم شرفاء، ومن كل ما يحدث هم براء، وكأنهم يجلسون في المدرجات ويقفون موقف المتفرج الذي لا يملك إلا الأمل والدعاء، وقد نسوا أنهم ليسوا خارج الدائرة، بل هم من يشكّلون التفاعلات داخل الدائرة، وهم اللاعبون الأساسيون. يتحدثون إليك وكأنهم قادمون من كوكب آخر، وكأنهم شعب آخر غير هذا الشعب، وسلالة أخرى غير تلك السلالة، سلالة أكثر نقاء وبراءة، وأبقى أنا في حيرة من أمري، فمن أين يأتي الفساد طالما كل الناس شرفاء، ومَن هم الفاسدون؟ وفي آخر حديث لي مع أحد المثقفين، أنهيت حديثي معه قائلاً: يا عزيزي.. كلنا فاسدون، هذه الجملة العبقرية التي قالها الراحل أحمد زكي في مشهده المشهور في مرافعته ضد الحكومة، نعم، كلنا فاسدون حتى النخاع، كلنا يصنع الفساد، أو يشارك فيه، أو يصفق له، أو يقف على الحافة منتظراً دوره ليصبح فاسداً، حتى أولئك الثوريين والمدافعين عن الحقوق والحريات، والاشتراكيين الذين يدعون الشرف والنزاهة، حتى أنا -من يكتب هذه الكلمات- كلنا فاسدون. نعم كلنا فاسدون، الأب الذي ينجب عدداً لا قبل له به من الأولاد، ولا يدري كيف يوفر لهم قوتهم، هو فاسد، والطالب الذي يغش في الامتحانات فاسد، والأستاذ الذي يُعطي الدروس الخصوصية فاسد، والذي يجبر الطلاب عليها أكثر فساداً، والأستاذ الذي لا يجيد مادته العلمية أكثر فساداً من كليهما، وأستاذ الجامعة الذي لا يجيد مادته العلمية فاسد، وأستاذ الجامعة الذي يستغل طلابه ويهددهم بالرسوب فاسد، وأستاذ الجامعة الذي يتحدث عن أزمة العلم ثم يشارك في ترسيخ الأزمة عن طريق منح الدرجات لمن لا يستحقها فاسد، وأستاذ الجامعة الذي لا يكتب ولا يبحث أكثر فساداً، الموظف المرتشي فاسد، والموظف غير المرتشي فاسد؛ لأنه سكت على فساد زميله، والراشي (الذي يدفع الرشوة) فاسد، والمدير المتستر على ذلك أكثر فساداً، والإعلامي غير المهني فاسد، والإعلامي "بوق النظام" فاسد، والإعلامي الذي يزيف الحقائق ويزيف وعي الجماهير أكثر فساداً. القاضي الذي لا يحكم بالعدل فاسد، والقاضي الساكت عن الحق فاسد، والقاضي الذي لا يعرف روح القانون أيضاً فاسد، والحكومات التي لا تراعي شعوبها فاسدة، والحكومات التي تعتبر رعاية شعوبها من قبل المنح والشفقة أكثر فساداً، والذي يعرف الحق ويحيد عنه فاسد، والذي يكتفي بالتعاطف مع المظلوم فاسد، والذي يظلم فاسد، والذي بيده نصرة الحق ونصرة المظلوم ولا يفعل هو أيضاً فاسد. ألم أقل لك: يا عزيزي.. كلنا فاسدون، نعم، كل منا يفسد بقدر استطاعته، فالفساد درجات: فهناك صانعو الفساد: الذين أصبح فسادهم كالماء والهواء؛ يستنشقون فساداً ويشربون فساداً، وهناك الفاسدون بالتكيف؛ أولئك الأفراد الذين أجبرهم المجتمع على الفساد، فكلما تحركوا في دوائرهم الضيقة في العمل أو الدوائر الواسعة في المجتمع، وجدوا الفساد في كل مكان، فتكريم وتبجيل وتعظيم للفاسدين ولا عزاء للشرفاء والمحترمين؛ فتقلدوا الفاسدين حتى يكونوا من المنُعمين عليهم. وهناك الفاسدون بالاستعداد، أولئك الأفراد الذين لديهم استعداد نفسي لأن يكونوا فاسدين، ولكنهم مترقبون لتلك الفرصة، وهناك الفاسدون بالتشجيع، أولئك الأفراد الذين يشجعون الفاسدين على إفسادهم، فنجدهم يعتبرون الرشوة "فهلوة"، "وقضاء المصالح بالطرق الملتوية "تفتيح". يا عزيزي.. كلنا فاسدون، حتى بالصمت العاجز قليل الحيلة، كلنا فاسدون بالتواطؤ والتكيف، ولن ينتهي الفساد حتى يصبح وطنك أعز عليك من نفسك وأهلك، حتى يصبح مصلحته أفضل لديك من مصلحتك، لن ينتهي الفساد، حتى لا يخشى أحد في الحق لومة لائم، حتى يغير كل منا ما يراه من منكر، لن ينتهي هذا الفساد حتى يبدأ كل بنفسه، حتى يضع كل منا الصالح العام فوق كل المصالح، حتى يتصرف كل منا في إطار حرصه على عدم تشويه الفعل الجمعي، حتى يحافظ كل منا على إظهار المجتمع بنفس القدر الذي يحرص فيه على أن يُظهر نفسه وبيته. "إن الله لا يُغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم". ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مشاركة :