في رواية "الحقانية" .. يا عزيزي كلنا فاسدون

  • 7/6/2017
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

"التبصير علي الدوام بمواطن القصور ومواضع الزلل في أجهزة العدالة التشريعية أو القضائية أو التنفيذية ضرورة لا بد منها". هكذا جاءت رواية "الحقانية" للكاتب والروائي صموئيل أمين الصادرة عن دار الحسناء للضبع والنشر في 200 صفحة لتلقي لنا حالة من حالات التبصير الفكري والمجتمعي في مؤسسة من أهم المؤسسات في كيان إي دولة من حالة من حالات الإبداع السردي المنسق المتكامل، حيث كان الكاتب بارعا في رسم عتبة الانطلاق الأولى إلى أجواء الرواية الرائعة، حيث تتابع الإحداث وتناسل الشخصيات في تشابك درامي كان هو الأروع. كان الإعداد لمسرح الاحداث تعبيرا عن تمكن الكاتب من رسم تلك اللوحات الجمالية والمكانية سواء داخل محل العمل أو خارجه من حيث دقة الوصف التي تأخد القاريء الى المعايشة الذهنية والتخيل البصري خلف كل لوحة زمنية أو مكانية، حيث بدأ الكاتب بإحداث الصدمة الأولى لنا في الرواية (ص7) قائلا: "المحكمة قطعة من جهنم، هذا ما أدركه جرجس عوض بعد سنوات من تعيينه كاتبا بإحدى النيابات الجزئية بالإسكندرية". من هند كانت البداية لرحلة طويلة وتطور لإحداث الرواية في سرد متكامل يأخذنا بلا ملل من مكان الى آخر عبر عاصمة الإسكندر التي تعد إحدى رموز المدن الثقافية في العالم من ذالك العهد اليوناني وحتى الآن، وكان اختيار الأسماء في الرواية له دلالة خاصة بتلك الفترة الخطيرة من تاريخ مصر الحديث والمعاصر حيث تأصلت العديد من الأيديولوجيات العقائدية في المجتمع وتعمقت الفتنة الطائفية في ربوع الوطن الآمن. في ص25 يشير الكاتب الي تلك الشخصيات المحورية في الرواية قائلا "بطرس وجرجس ينتميان للجيل الذي ولد في السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين الميلادي، ذالك الجيل الذي ولد في عز تفشي الطائفية والتعصب الديني، ومنذ نعومة أظافرهما عرفا السؤال التقليدي في المدرسة، أنت مسلم ولا مسيحي؟ وقد تبدت الطائفية في أسماء مواليد هذا الجيل فانتشرت الأسماء الدينية من نوعية (جرجس) و(بطرس) و(مينا) وغيرها من الأسماء. واختفت أسماء الحقبة الليبرالية من نوعية (نبيل) و(أمين) و(كمال) وغيرها بعد أن أصبح الناس في زمن التعصب يظهرون الهوية الدينية واختفت وذبلت الوطنية". وكان هذا الإسقاط من جانب الكاتب ليس لشيء، غير أنه فقط يريد التبصير الذهني بما حدث من تغير ايديولوجي ومجتمعي في تلك الفترة، بعد ظهور جماعة الإخوان (الإرهابية) في المجتمع المصري، وتلاها تلك الجماعات الإسلامية المختلفة خاصة في عهد الرئيس السادات الذي فتح أمامهم المجال للانتشار والتواجد في المجتمع اعتقادا منه بأنهم هم القادرون على مواجهه الفكر اليساري الذي كان مناهضا له سياسيا في تلك الفترة. ومن هنا نجد أن جماعة الاخوان في تلك الرواية الخطيرة ظهرت في ثلاثة محاور رئيسية هي عملية التجنيد من أجل الانتشار والتمكين من كافة الأجهزة وأهمها القضاء، وهنا كانت عملية التبصير الذهني للقاريء عن هذا الكم من أحكام البراءت التي حصل عليها قادة تلك الجماعات في عهد مبارك، تلك هي النتيجة الطبيعية لهذا التغلغل الخطير داخل سلك القضاء وتجلى ذلك في الدور الذي قام به "عبدالعظيم بك" في تجنيد "احمد بك حداد" الذي أجبره والده على ترك مجال الشرطة والاتجاة نحو النيابة، وكان إنسانا وصوليا يريد ان يصعد بسرعة الى أعلى المناصب. أما المحور الثاني لتلك الجماعة، فهو التركيب الهيكلي للجماعة والتكليفات السرية لكل عضو فيها وتجلي ذلك في حالة التواصل العلني والسري بين "احمد حداد " وعبدالعظيم بك حسب تطور الحدث، حيث نجح الكاتب في رسم حط درامي لتطور الاحداث لإظهار هذا المحور. أما المحور الثالث وهو إظهار العداء الدائم بين أعضاء تلك الجماعة الأقباط في مصر حتى يومنا هذا بمباركة من جهاز الشرطة المنوط به توفير الحماية الأمنية لهولاء لأنهم جزء لا يتجزأ من النسيج الوطني والمجتمعي، وتجلى ذالك في المعاملة الجافة جدا من "احمد حداد" لكل من "جرجس" و"بطرس" ومن بعده "جابر عثمان" ذالك العضو السري الذي اختاره "عبدالعظيم بك" ليكون مراسلا بينه وبين "أحمد حداد". الكاتب يعتمد في تلك الرواية علي ثلاثة عناصر مهمة كل منها مكملا للآخر في سياق تطور الاحداث، اولهما الوصف التفصيلي لكل شخصية اللون والشكل والطول والطباع ربما يعطي ذالك حالة من حالات التخيل الذهني والبصري للقاريء عنها من خلال تتابع الأحداث، وهذا الإسقاط السيكولوجي له الأثر الأبرز في تفكير وتصرف الشخصية وهذا ما نلاحظه مع كل الشخصيات. العنصر الثاني هو الصراع الدرامي والحواري بين كل الشخصيات في الرواية، وهذا ظهر جليا في كل المواقف والمواقع لإظهار حالة الفساد الإداري والوظيفي داخل هذا القطاع الحيوي من مؤسسات الدولة (وزارة العدل) وهنا إسقاط تاريخي لتأزم العدالة في تلك الفترة حيث نجد كل أطراف المؤسسة مستعدا لتحطي الحقائق وارتكاب كل أشكال الفساد من أجل المال حتى وصل الأمر إلى عامل المقصف الذي استغل وجوده فقط داخل ديوان "النيابة"، ووصل الأمر الى الاستعانة ببعض المرتزقة ليمارسوا ويشرفوا على قطاع كبير من الأعمال المهمة داخل النيابة. والأغرب في هذا الأمر هو ان يتم كل ذالك تحت رعاية وكلاء النيابة وكبار الموظفين. وكانت الكارثة الكبرى هي التدخل المباشر من قبل "حمدي" وهو أحد عناصر المرتزقة في عدم إرسال القضايا التي تستأنف فيها النيابة، وكانت عبقرية الكاتب حاضرة في رسم مشهد الاتفاق بين المحامي "فكري" و"غنيم" على سرقة ملف إحدى القضايا الكبرى المتهم فيها أحد رجال عصر الانفتاح الساداتي والمباركي، وكانت فمة الصراع الداخلي في مشهد مقتل ابن "غنيم" وانتقال الملف الى الجنايات، وهنا يكون الصراع والفساد من نوع آخر انتهي الأمر بحرق مبني محكمة الحقانية. العنصر الثالث الذي بنى عليه الكاتب روايته هو تلك النهايات المفجعة لكل حالة من الحالات الفاسدة في القطاع، وتجلى ذالك في حبس "فايز ميشيل" ومقتل ابن "غنيم" في حادث سير مروع وفاة "غنيم" حزنا على ابنه، وزواج "شريفة" من المحامي الذي يكبرها بثلاثين سنة، ومصرع صديقه "بطرس" في حادث كنيسة القديسين، وإحالة "احمد حداد" الى عدم الصلاحية بسبب الرشوة. وتلك النهاية المؤسفة لجهاز الشرطة عقب ثورة الخامس والعشرين من يناير بسبب فساد بعض الأفراد على شاكلة الرائد "حسام". وكانت أغرب تلك النهايات في هذه الرواية الراصدة للأوضاع السياسية والاجتماعية في مصر بعد ثورتين هي عبدالعظيم بك التي تولي منصبا عاليا واستمر فيه حتى بعد رحيل حكم الاخوان ليصرخ فينا الكاتب مندهشا متعجبا الى هذه الدرجة لا يزال للإخوان عناصر في مواقع مهمة في الدولة رغم ادعاء النظام بأنه في حالة حرب مع الإرهاب إذا لم يكن "هم الإرهابيون "فمن إذا؟ ويظل السؤال مطروحا بشكل شرعي لماذا لم يتم التخلص من "عبدالعظيم بك" الاخواني؟ وهذا إسقاط كبير على الأوضاع في مصر بعد ثورتين لتكون الصرخة "يا عزيزي كلنا فاسدون" حتى البطل الذي تم تعينه عن طريق الوساطة في هذا المجال رغم أنه خريج كلية الزراعة التي لا علاقة لها بهذا السلك نهائي . علينا أن نؤكد أن رواية "الحقانية" هي نوع من أنواع السير الذاتية حيث تناولت حياة البطل منذ كان صبيا حتى مراحل متقدمة من حياته ومثلها مثل "الأيام" لعميد الأدب العربي طه حسين و"الوسية" للدكتور حسن خليل، حيث تحمل رؤية درامية لحياة البطل داخل إطار مكاني وزمني محدد، واعتمد الكاتب على أسلوب السرد البسيط مستخدما تلك المفردات المتداولة في مسرح الاحداث ونجح في أخذنا بدون ملل الى تلك الحياة الخاصة داخل مؤسسة من أخطر المؤسسات في الدولة، بداية من الغلاف الرائع الذي صممه "أمير مصطفي" حيث عبر عن تلك الأفكار المتداخلة في عقل ووجدان البطل الذي أصبح راصدا لحركات كل الشخصيات، متقربا الى البعض ونافرا من الآخر، واستخدام اللون الأخضر رمزا للعلم مصر القديم الذي كان يقود فيه أصحاب الحقانية قيادة البلاد للتحرر من الاستعمار، كل ذالك في ترتيب إبداعي في تصميم الغلاف الذي جاء معبرا عن مكنون الرواية، كما ان الكاتب اعتمد على البناء السيكولوجي في بناء الشخصيات في المراحل المختلفة من تطور الأحداث حيث تم توظيف كل شخصية حسب تكوينها النفسي لتضيف عنصرا جديد لأحداث الرواية.

مشاركة :