فتحية الحداد | أبدأ اليوم مرحلة جديدة، بالنسبة لي، أتوقف فيها مع الكلمات. مضى اكثر من عام على اصدار الكتاب الأول في سلسلة «امنحني 9 كلمات»، ويبدو أن الكتاب لم يسحر الكثيرين رغم أن طلاسم زرعناها فيه يمكن أن تستحث الفضول. في الكتاب خمسة عشر نصا موزعة على ثلاثة أشهر، حيث كُتبت النصوص خلال يناير وفبراير ومارس 2015. في الشهر الأول كانت هناك أربعة نصوص شارك فيها: استبرق أحمد، سارة العتيقي، ماجد القطامي وكاتبة المقال. تلك النصوص انطلقت من 9 كلمات. لم يكن التحدي سهلا أمام المؤلفين وكل ما قُدم إليهم 9 كلمات. كيف للكلمة أن تحرك المبدع ليبني نصا، الأمر أشبه باعطاء بناء عددا من الأحجار أو منح حداد قطعا متباينة ليعيد صياغتها ويخرج بما يفاجئك. حتى نتعرف على آلية البَنّاء أو الحداد أو الكاتب سنقرأ في الأول الذي تصدر كتاب «امنحني 9 كلمات» وكان بعنوان American’s Dad. لن أتوقف عند العنوان، فالعرض اليوم مخصص للتعرف على الآلية التي عملت عليها الكاتبة استبرق أحمد حين تعاملت مع الكلمات التسع التالية: السبت زوالا، مارغريب، سعيدة، غليظ، مساء، الطاولة، حادة، ميرفي، عصابة. في نصها بدأت استبرق أحمد بمقولة للأميركي بيل كوسبي ثم كتبت «السبت الخامسة زوالا». في السطر التالي أضافت «مارغريت». وهنا يلحظ القارئ أن الكاتبة لجأت سريعا إلى الكلمات التسع واستطاعت احتواءها بأن طوعت الزمن ثم استلت اسم مارغريت لتضيف بعد ذلك وتقول «أود مكاتبتك قليلا، كنت أبحث في سيرة شجاعتك وجرأتك، فتذكرته». أسرعت استبرق أحمد، وكما البناء البارع، في استخدام الكلمات أو العناصر التي بين يديها فأخذتنا إلى لحظة الكتابة، واستدعت من ذاكرتها شخصية تعرفها أو تأثرت بها وهي مارغريت، ثم أدخلتنا في عالم آخر من الكتابة. كما يحدث في الدراما وفن المسرح داخل المسرح، بدأت استبرق أحمد تكتب رسالة إلى مارغريت وتقول لها «أود مكاتبتك قليلا». المثير أن السطر الأول لا يزيد عن عشر كلمات، إلا أنه يحيلنا أيضا إلى سحر الذاكرة. تقول الكاتبة «كنت أبحث في سيرة شجاعتك، وجرأتك فتذكرته». نحن هنا أمام فعل غير بسيط. حيث ان استبرق أحمد كمشاركة في مشروع «امنحني تسع كلمات» تحاول أن تتدبر أمرها مع الكلمات في اجراء أولي للكتابة أو للتعامل مع ذاكرتها من المفردات واحالاتها. ثم نجدها، أو نجد الراوي، يتحدث عن ذاكرة أخرى أكثر تعقيدا وهي التي تفاجئنا ونحن نراقب مشهدا أو ننظر في لوحة أو نقرأ في كتاب. فكاتبة الرسالة تخبر مارغريت أنها تذكرته، بينما كانت تقرأ في سيرة مارغريت. مَنْ هذا الذي تذكرته كاتبة الرسالة، ولماذا لم تفصح عنه سريعا؟ السبب في ذلك هو تدخل شخصية المؤلفة أو الراوية التي تتمهل في الإفصاح عن التفاصيل وتتدرج في بث المعلومة، وربما وضعت المبررات حتى تصل بالقارئ إلى نقطة تذكره بأول عبارة وردت في النص. لن أقول بأن هذه حركة دائرية تعود بنا إلى البداية، لكن القارئ يمكن أن يرسم خطا يربط بين البداية والنقطة التي يقرأ عندها. بعد اعتراف سريع تبثه كاتبة الرسالة نقرأ تبريراتها التي تبدأ عكسيا، فنقرأ: «هناك عدة أسباب لثرثرتي معك منها ثالثا: لأنك ولدت في فيتنام، بلاد من الشرق، لذا تدركين وجود تشابه في عقليتنا، في توجساتنا حول مدى المؤمرات وعدم نسياننا لحكايات الحب. ثانيا: لأن هناك فرقا هائلاً بينك وبين معشوقك «بان أندريانا» إذ فارق التسعة والثلاثين عاما بينكما لم تهزه تجاعيد الوقت. وأولا لأنك كاتبة تعرفين أننا ذوات حساسية مفرطة إزاء كل ما هو حولنا، وربما كتابك «العاشق» أبرز الأدلة على رهافتنا نحن النساء/الكاتبات أما ما قبل أولاً.. أنت أيضا فقدت والدك. ربما لكل هذه الأسباب وغيرها. أحادثك عن ذلك الأب الأميركي، (…) وأنا هشة تجاه الآباء». حركة النص السردي، التي نتجاهلها أحيانا في المقالات النقدية، لا يمكن التغاضي عنها هنا. فاعتماد المؤلفة الترتيب العكسي- ثالثا، ثانيا، أولا، ما قبل أولا – يستوقف المتلقي، لكن الاستمرار في القراءة يجعلنا ندرك أن الأولوية هي لفقد الوالد ليكون ما قبل الأول والاخير وليكون ذلك سببا في تعلقنا بمن يشبهنا. لهذا، وبعد أن طرحت كاتبة الرسالة الأسباب الثلاثة كتبت «ما قبل أولا.. أنت أيضا فقدت والدك. ربما لكل هذه الأسباب وغيرها أحادثك عن ذلك الأب الأميركي». تنظيم المبررات يمكن اعتباره محطة «ذهنية»، اجتمع فيها المؤلف والشخصية ليكون بوح كاتبة الرسالة مسارا تتخلله الإشارات فيقف القارئ مرة، ويسير في أخرى وقد يحلو له أن يرجع إلى نقطة البداية ليرى أنه يعود محملا بفكرة وصورة وانطباعات أودعتها الكاتبة في ذهنه. كمؤلفة للنص لم تفصح استبرق أحمد عن أي مارغريت تتحدث، وكاتبة الرسالة لم تناد مارغريت باسمها كاملا إلا لاحقا، وانتظرت أن تكتمل مشهدية خاصة بتنظيم الحركة العكسية لتقول «تعرفين يا مارغريت دوراس. لقد لحقت على التماعتهما. كانا الأشهر في لعبهما، في استقطابهما للكركرات والمرح. لم أكن أحب إيدي ميرفي مطلقا في شرطي بيفرلي هيلز». مع ميرفي عادت بنا استبرق أحمد إلى لعبة الكتابة انطلاقا من كلمات مختارة، واسم ميرفي الذي كان في القائمة. كما الحداد البارع، تستل استبرق الاسم وتستخدمه كمفصل تؤمن به حركة جديدة في نص تلتحم فقراته وكأن فعل الالتحام يحدث تلقائيا. بالمفاصل المُختارة تتخطى المؤلفة عراقيل خاصة بنمط الشخصيات. تعود إلى ذاكرتها ومشاهداتها لتستخدم اسم ميرفي في سياق متجانس مع الفكرة العامة، حيث ان كلامها السابق عن الممثل بيل كوسبي تتبعه إشارة إلى الممثل إيدي ميرفي ليعبر استخدامها للأسماء التزاما نحو قائمة فرضت على المشاركين في مشروع «امنحي 9 كلمات»، وأيضا التزاما بقضية تؤرقها. American’s Dad نموذج لنص يستوحي القصة من الكلمة قبل الفكرة، أو لنقل هو نموذج لمدى التحدي الذي يتجاوزه الكاتب ليكشف عن معجم مدفون في ذاكرته وليقوم بتفعيل ما تركته قراءاته وانطباعاته وآراؤه ومشاهداته في ذهنه، ولهذا فعندما صادفت استبرق أحمد كلمة «عصابة» عرفت كيف تستخدمها في وصف واحد من شخصياتها وكتبت عن مشاهدة بيل كوسبي على الشاشة «رأيت عصابة الأحزان تلف رأسه».
مشاركة :