النخب إلى الصراع والجموع إلى المصارع بقلم: نوري الجراح

  • 4/9/2017
  • 00:00
  • 9
  • 0
  • 0
news-picture

هل نحن في عصر الجماهير المتطلعة إلى الحرية وقد امتلكت وعي الحرية، أم في عصر الجموع المخدرة بالصيغ الرومانسية عن الحرية في سوق عالمية ماكرة.العرب نوري الجراح [نُشر في 2017/04/09، العدد: 10597، ص(11)] كيف يبدو حال الشرق وتبدو مصائره في الزمن العالمي الراهن وقد أوهم الغرب في دوائره التسلطية نفسه أنه بات مكتفيا بذاته كما السايكلوب الإغريقي، فلا يقربنّ شاطئه وكهفه مغامر إلا ليكون طعاماً له. ولكنه نوع جديد من السايكلوب (الذي كان يوماً بعين واحدة)، يبحر حيثما شاءت له رغباته وحاجاته أن يبحر ويتصرف في الشرق كما في الغرب كقوة جبارة لا رادّ لها. في الزمن العالمي الراهن، وهو زمن العولمة في طور من الزعزعة، يطرح العقل على نفسه السؤال الأكثر جوهرية: هل نحن في عصر الجماهير المتطلعة إلى الحرية وقد امتلكت وعي الحرية، أم في عصر الجموع المخدرة بالصيغ الرومانسية عن الحرية في سوق عالمية ماكرة هي سوق السايكلوب ذي العيون الكثيرة وقد استهلكت من الأفكار والصيغ والماركات خلاصات قرون من كدح العقل الإنساني والتجارب المجتمعية والمغامرات الفكرية؟ فهل نحن في عصر الجموع المتملكة لإرادتها الواعية في خوض الصراع على المستقبل أم في عصر النخب حاكمة ومعارضة وهي تسوق الجموع إلى مصائرها المأساوية، بينما الجموع تظن نفسها صاحبة الإرادة والسبيل وصانعة الشرف في المأساة؟ وعلى طرفي المصارع، بين خندقي الدين والدنيا، تتناظر أفكار الأرض مع أفكار السماء، وتتواجه خيالات المستبد مع حجج المطالب بالحرية، وترفرف بيارق الجماعات وقد تساقط تحتها صرعى شهداء الحرية وجنود الاستبداد معاً، وقد اختلطت الأسباب بالأسباب. أهي معمعة عمياء، إذن، في صراع دام بين قوى أعماها الجشع وأخرى أعمتها الأيديولوجيات، وقودها وضحاياها جموع حملوا بيارق مصارعهم وقد أوهمهم المتصارعون أنها بيارقهم وهم أصحابها؟ هل يريد كلامي تبسيط التعقيد الذي يتحكم بمجريات الصراع المأساوي في المشرق العربي كأن يقول إن الأيديولوجيات الخلاصية والشمولية هي في شراكة واعية ومنظورة ومحددة المعالم والنسب والمواقيت بين الحاكم المستبد والثائر المتطلع إلى انتزاع السلطة باسم الجموع المؤمنة بطريقته؟ هل أساوي بين الحاكم والثائر في لحظة عربية وشرقية يحيط بها عالم مضطرب الأحوال ومختل الموازين استهلك كل ما طرحه العقل البشري المتحضر من صيغ لتوديع الوحشية وتسييد قيم الحضارة على حاضر الإنسان ومستقبله، فإذا به عالم يزداد حاضره وحشية ومستقبله غموضاً. المثقف في التاريخ، شاعرا وروائيا ونحاتا ومصورا ومفكراً لأجل الحرية لا يساوي هذا المثقف الفاعل في التاريخ بين رموز الطغيان ورموز الحرية، ولا بين الضحية والقاتل، ولكنه يقف في خندق الحرية، ومن تلك الجهة لا يتورع هذا المثقف عن تشريح الذات ونقدها اتقاء للتّيه والغرور والأخطاء القاتلة بحق الناس الذين يتكلم باسمهم. ولكن كيف يقوم الدليل في الحكم على الشيء، وما دليلي على ما يؤرق العرب اليوم سوى ما آلت إليه أحوال الجموع، ثائرة وخانعة، وما حلّ بها في ديارها من دمار وموت ورعب وما طالها من تهجير وتشريد وما ألحق بها من مآس مهولة لا يحتملها جبابرة الأساطير، وقد تسبب لها بهذا كله عنف المستبد وحماته الإقليميون والعالميون، ومكر المتصارعين الكبار في العالم (السايكولوبات الجدد) بما أحدثوه من انقلابات في و(على) انتفاضات بريئة سرعان ما اختلت موازينها من حيث قامت لعدل الميزان وإقامة العدل ورد الحرية واستعادة الكرامات. ولكن هل يكفي في مآسي العرب، السوريين والعراقيين واللبنانيين والفلسطينيين واليمنيين والليبيين، تجريم المستبد مرة وحماته الغزاة أخرى، هل نعفي أنفسنا من التفكر أوسع ليطال تجريمنا الجريمة منظومةَ الأفكار الفاعلة على خندقي الدنيا والدين معا، وهي الأفكار والأوهام التي قرأت الصراع وحلّلته واتخذت مواقعها فيه، متمترسة وراء سد قوامه مئات الآلاف من الضحايا وقد غرزت في أجسادهم النازفة بيارق أيديولوجياتها وقراءاتها. وما برحت تبني من هذه المصارع وذلك الحطام جسورها إلى “المستقبل”؟ إنها أسئلة أجوبتها ليست ناجزة ولكنها أسئلة أطرحها أولا على عقل النخب العربية المثقفة التي قالت لنا أدبياتها إنها مؤمنة بالتغيير ولأجله تعمل، ولكونها أعلت من شأن نفسها ومواقعها وقراءاتها للصراع، وجعلت من فكرة الجموع جمهوراً لأفكارها وتطلعاتها.. وهي بالتالي تتحمل قسطها من المسؤولية بإزاء نهر الدم الذي يتدفق بلا توقف في حاضر العرب وحواضره. فليس السفاحون وحدهم المسؤولين عن سفك الدماء، ولكن أولئك الذين خاضوا المعركة متسلّحين بالجموع ولم يخوضوها بكفاءة، إن لم نقل إنهم لم يحرصوا على أرواح الضحايا أو هم جعلوا من غزارة دماء الضحايا وقودا لحركاتهم الفكرية والأيديولوجية وتطلعاتهم القيادية. مرة أخرى، ليس من شأن هذه الكلمة أن تساوي بين الجلاد والضحية، ولا بين المستبد والثائر على الاستبداد، ولا بين مغتصب الحق وصاحب الحق، ولكنها كلمة ناقدة تحاول أن تضيء مصباح السؤال في عتمة الأجوبة الدوغمائية وظلام التطلعات العمياء الناكصة بأهل الحاضر نحو ماض متوهّم لا يمكن استعادته في برهة زمنية يسودها خليط من المغامرين والأفّاقين اللاعبين بدم الأبرياء وقد هان هذا الدم حتى صار أرخص من ماء مسفوح وليس له صاحب. ولعمري إن هذه الكلمة إذ تفتتح هذا العدد إنما تتداخل ملاحظاتها وإشاراتها مع ملف يغامر بدوره في طرح السؤال عن ظاهرة صعود اليمين الشعبوي المتطرف مستعملاً بدوره الجموع ليرتقى على مصائرها ومصارعها نحو قمة السلطة الأعلى في العالم، سلطة العولمة في أكثر صورها مركزية وتوحشا؛ أميركا الجديدة التي لا هي بالديمقراطية ولا هي بالمحافظة، ولكنها خليط متطرف من يمين غاضب وديمقراطيين محبطين، وطبعة جديدة من شعبوية لا يمكن التنبؤ إلى أين ستأخذ أميركا والعالم في ظل انهيار مريع لكل ما أنتجه العالم المتحضر من قيم في العصر الحديث. شاعر من سوريا مقيم في لندننوري الجراح

مشاركة :