عبد المعطي حجازي: الفن خروج دائم عن المألوف

  • 4/10/2017
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

القاهرة: عيد عبد الحليم أحمد عبد المعطي حجازي أحد رواد الشعر الحديث في العالم العربي، صاحب تجربة إبداعية تجاوزت الستين عاما، بدأها بديوانه «مدينة بلا قلب» في منتصف الخمسينات من القرن الماضي، والذي صدر بمقدمة مهمة للناقد الراحل رجاء النقاش، وتبعه عدة دواوين .الشاعر الرائد تجاوز عمره الآن الثمانين، لكنه دائما يؤكد أن الحياة متجددة، بالفن والإبداع، والرؤية الجمالية لها، فالعمر من وجهة نظره لا يحسب بعدد السنين إنما بحجم ما يقدمه المبدع خلالها. يرى صاحب «مدينة بلا قلب» أنه مع كثرة التجارب والخبرات في الحياة تتعدد الرؤى وتتسع الزوايا التي يرى من خلالها الإنسان العالم، تكون هناك مصداقية في تناول الأشياء، وتتكون فلسفة خاصة تقوم على سبر أغوار المعطيات الإنسانية والوجودية، وتتعمق الرؤية الفنية بفعل التراكم، حيث يستطيع الأديب أن يتأمل الأمور جميعا، وقد فقدت ضروريتها وثباتها، وأصبحت طيعة ومرنة بين يديه، مهيأة لأن يصنع منها ما يشاء.فالرؤية الفنية ترتاد مناطق مجهولة أو مساحات لا يملك الإنسان العادي الجرأة على اقتحامها بوعي، وقد تكون تلك المساحات وقائع، أو معارف، أو مشاعر مما قد يتغاضى عنها الناس بوعيهم اليومي المعتاد، غير أن الفنان أو الأديب يواجه ذلك كله بتمزيق الحجب السمكية التي تتستر خلفها الموضوعات والعلاقات، وكأنها أمور قارة ناجزة، ومكتملة نهائية. عوالم جديدة وحول رؤيته للفن بشكل عام يقول حجازي: «الفن بمثابة نوافذ على عوالم جديدة، أو هو نظرة جديدة تحطم الألفة وتخترقها، وتحول ما هو ملقى في الطريق إلى طازج وطريف جدير بالمراجعة والتأمل من جديد، واتخاذ موقف مختلف، الفن يستعيد التوهج الذي أطفأه الاعتياد، ويسلط الضوء على ما توارى عن الاهتمام، وينير الداخل المعتم للأشياء والتجارب، وينشئ ويعيد التواصل بين نثار الوقائع والحوادث، فهو عملية مزدوجة من التفكيك والتركيب، تفكيك الأوضاع السابقة للوجود، وإعادة تركيبها في عمل جديد، وهو في كل هذا يحدث لغة مضافة أو بالأحرى شفرة مخالفة تستعيد التواصل بين البشر بمقتضاها على أساس جديد» وذلك يتم على صعيد الخيال الذي هو مهاد الإبداع، فهو الذي يعد الأشياء جميعا ممكنات بتحريرها مما هي عليه من ضرورة واقعية، فيخترق عتمة الأشياء وجمودها على ماهيات ثابتة، ليذروها فيصوغ منها عملا جديدا يثير انفعالا خاصا يكون وسيطا، على نحو أو آخر، بدرجة أو بأخرى، لتحقيق أهداف الإنسان ومطالبه. ولا يعني هذا أن الفن يزاحم الأنشطة الإنسانية الأخرى، في تحقيق أهدافها بأساليبها النوعية المتميزة نفسها، لأنه يحفز إلى تحقيق هذا الهدف أو ذاك بموجب كيانه الخاص، قد يكون قصيدة أو لوحة، أو تمثالاً، أو رقصة أو مسرحية، ويضع الفن أشكالا جديدة لكل ما يتخيله من نماذج الوجود التي تختزل العالم وتدنيه من قبضة الإنسان.ويضيف حجازي قائلا: يتميز الفن بأن له دوراً في شحذ قدرات الإنسان على إنتاج أشكال جديدة دون أن يكون منافسا لغيره من المجالات، فيهدي أصحاب المجالات الإبداعية الأخرى من خلال تلك الأشكال الجديدة إلى اكتشاف الينابيع النضاحة للحياة، والإمكانات الثرية للوجود، ومن ثم انتقل الفن من طابعه الخاص إلى كثير من شؤون حياتنا، بل إننا لنجد ذلك الطابع راسخا في القيم الإنسانية المستجدة في الواقع. محطات وحول أهم المحطات المهمة في حياته يقول حجازي: المحطة الأولى تبدأ بأول قصيدة نشرتها عام 1955 في مجلة «الرسالة الجديدة» لأحمد حسن الزيات، وكان عمري وقتها لا يتجاوز العشرين عاما وكان عنوانها «بكاء الأبد» وقد كتبت عام 1953، وقد لاقت استحسانا كبيرا وقت نشرها، مما شجعني على مواصلة نشر قصائد أخرى بعدها في عدد من الصحف والمجلات المصرية والعربية، ومنها مجلة «الآداب البيروتية» التي احتضنت كثيرا من تجارب الكتاب الجدد وقتها، في القصة والشعر والنقد الأدبي.أما المحطة الثانية: فجاءت عند هجرتي إلى مدينة القاهرة لأعمل في مجال الصحافة بعد أن تم استبعادي من العمل في التدريس، وكانت بدايتي في العمل في جريدة روز اليوسف والتي كانت تمتلئ وقتها بنخبة من كبار المبدعين والفنانين أمثال حسن فؤاد وصلاح جاهين وعبد السميع وبهجوري وغيرهم، بالإضافة إلى إحسان عبد القدوس وأحمد بهاء الدين. أما المحطة الثالثة فكانت ترسيخا لوجودي الشعري، حيث صدر ديواني الأول «مدينة بلا قلب» عام 1959، الذي وضعني في مكانة مميزة في حركة الشعر الجديد.أما المحطة الرابعة فجاءت من خلال إقامتي في باريس منذ عام 1974 بعد أن تعرضت للفصل من عملي في الصحافة، وكان الغرض الأول من السفر عندي هو أن تكون لفترة قصيرة أستطيع من خلالها التعرف إلى الثقافة الفرنسية، لكن المسألة تحولت بعد ذلك إلى هجرة استمرت لسنوات طويلة قرابة سبعة عشر عاما، عملت فيها مدرسا للأدب العربي في جامعة باريس «السوربون الجديدة»، وفي تلك الفترة ألقيت مجموعة من المحاضرات في الكوليج دي فرانس باللغة الفرنسية عن الشعر العربي في القرن العشرين، وأتذكر هنا الدور الذي لعبه معي المفكر الفرنسي جاك بيرك، وجمال الدين بن الشيخ، وأندريه هيكل. هذه محطات لم أخطط لها ولم تكن في الحسبان، لم يكن هناك قصد أن أمضي في معظمها، أو أن أخوض في بحار مجهولة لكنه قدري في الحياة، أن أرى وأعرف وأكتب، ففي كل محطة من هذه المحطات تعلمت الكثير ولا زلت. حياة مختلفة ويضيف حجازي: استفدت كثيرا من الفترة الطويلة التي قضيتها في باريس، حيث جددت حياتي تجديدا شاملا، خاصة أنني عشت حياة مختلفة على مستوى الواقع وعلى مستوى الفكر والإبداع، فباريس حالة مختلفة في العمارة والبشر أيضا، والفكر والثقافة كانت فترة مراجعة لأفكاري السابقة، وفترة رؤية لأفكاري، أحببت باريس واحترمتها لأنها أحبتني واحترمتني فما كدت أصل إليها وأقضي فيها ثلاثة أشهر حتى أصبحت مدرسا في الجامعة، وكان ذلك بسبب مقالة كتبها الكاتب الجزائري الطاهر بن جلون في صحيفة «اللوموند» وكانت تحت عنوان «باريس في عيون حجازي» مما لفت الأنظار إلى وجودي هناك، وكنت قد اتصلت بجاك بيرك، أستاذ علم الاجتماع الإسلامي في «الكوليج دي فرانس» الذي عرفني بعدد من الشعراء الفرنسيين وعلى رأسهم الشاعر جان جروجان وميشيل دوجي وجمال الدين بن الشيخ الذي عرض عليّ العمل في جامعة باريس، وهناك درست الشعر والعروض والحداثة في الشعر العربي، كنت أدرس الشعر كحلقات تاريخية متصلة، لأنني أرى أنه كلما أصبحت التقاليد عبئا ظهرت حركات التحرر، وكلما أسرفت هذه الحركات في التحرر عاد الشعر إلى التقاليد، وهذا لا يلتفت إليه بعض النقاد الذين يفصلون بين حركات التجديد والتيارات التقليدية، فحركة الإحياء الشعري التي يمثلها البارودي وإسماعيل صبري وأحمد شوقي ومعروف الرصافي والزهاوي هي عودة إلى التقاليد، ولكنها ليست تقليدية، وتعتبر حركة تجديد بالنسبة لشعر مرحلة التدهور. وهذا ما حاولت توضيحه في محاضراتي في باريس، أمدتني باريس بطاقات إيجابية كثيرة وبكثير من الرؤى المستقبلية، تعرفت إلى شخصيات أضافت إلى تجربتي وبدأت أرى الأمور بنظرة أخرى وتعمقت رؤيتي الفلسفية ورؤيتي للبشر والحياة. الديوان الأول وحول علاقته بالناقد الراحل رجاء النقاش يقول حجازي: كان النقاش أقرب أصدقائي إلى قلبي، فهو الذي قدمني في ديواني الأول «مدينة بلا قلب» وهو ابن جيلي الذي يكبرني بعام، كان برفقتي في مراحل مهمة من حياتي أذكر أنه قبل ستين عاما من الآن وجدت برقية لي في روزاليوسف أرسلها شقيقي يخبرني فيها أن أبي قد مات، وكان أبي وقتها في السبعين من عمره، وكنت في ذلك الوقت شابا أعزب لا يصبر كثيرا على البقاء في منزله الذي لا يؤنسه فيه أحد ولا يملك فيه من وسائل الاتصال ما يمكن الآخرين من إبلاغه نبأ كهذا النبأ والنتيجة أني قرأت الخبر حين تسلمت البرقية، فلم ألتفت بسبب الصدمة للتاريخ الذي أرسلت فيه.وأذكر أن الذي احتضني بعد عودتي إلى القاهرة من بلدتي وخفف من لوعتي الحارقة وأحاطني بدفئه وحنانه كان هو رجاء النقاش، وقد كتبت قصيدة في رثاء أبي وجهتها إلى أصدقائي وبالطبع في مقدمتهم رجاء، حيث أقول فيها: «مات أبي يا أصدقاء، الغرباء ودعوه بينما أنا هنا، لمحتهم في الضفة الأخرى، ظلالا في غروب الشمس تنحني، على القبور، ما وجدت زورقا يقلني، لم أستطع وداعه في يومه الأخير». في تلك السنوات منذ عام 1957 لم نكن نفترق أنا ورجاء، وقد كتبت فيه قصيدة في مراحلي المبكرة تحت عنوان «إلى اللقاء» أهديتها إليه أقول فيها: «يا أصدقاء، لشد ما أخشى نهاية الطريق، وشد ما أخشى تحية المساء، إلى اللقاء، أليمة، إلى اللقاء، وأصبحوا بخير، وكل ألفاظ الوداع مرة، والموت مر».

مشاركة :