إذا أراد الواحد منا الحصول على وجبة غذائية ما عليه سوى الذهاب إلى مطعمٍ ما و دفع المبلغ المطلوب، إذا أراد الحصول على جودة عالية في الخدمة و النظافة عليه دفع مبلغ أكبر، هذا السلوك يمكن تعميمه على جوانب كثيرة من حياتنا، إذا أردت شيئا عليك أن تدفع المال اللازم للحصول عليه و أصبح حالنا كما يقول إخواننا المصريون”معاك إرش تبا إرش “. تبدو الصورة أوضح في المجتمعات الغربية التي تصنف على أنها مجتمعات تسليعية (تحول كل شيء إلى سلعة) الذكرى السنوية لزواج لا بد أن يُحتفل بها في مطعم فاخر، لابد أن يحصل الأطفال على هدايا و ألعاب في عيد ميلادهم حتى وهم ليسوا بحاجة لها. حدثني صديق أسترالي أن زوجته تسعد بقيمة الهدية أكثر من الهدية نفسها(!!) أستاذ الفلسفة مايكل ساندل قدم في جامعة شيكاغو محاضرة عن خطورة المال في الحصول على الأشياء و الخدمات و أنه لا بد من وضع حدود أخلاقية له و هذا التدوينة عرض لها. في بداية المحاضرة ضرب أمثلةً لكيف يُمكن من خلال المال الحصول على خدمات غير متوقعة، مثلاً تُعطي متسولاً مالاً ليقف بدلاً منك في طابورٍ طويلٍ(باعتبار أن امتلاك المال لا يعني القفز على الطابور). طرح بعدها فكرة: استخدام المال لتحفيز الناس و ذكر مثالاً لجامعة أمريكية وضعت جوائز مالية متفاوتة بناء على الأداء الأكاديمي للطالب، كلما أحرز الطالبُ تقدماً حصل على مُكافأة مالية. ثم سأل الحضور: ما رأيكم لو وضعنا برنامجاً للتلاميذ الصغار، من يقرأ منهم كتاباً يحصل على مقدار مالي؟ أجاب أحد الحضور بقوله: أنني و زوجتي جربنا ذلك مع ولدينا الصغار، قلنا لهم أي كتاب يُقرأ يعني الحصول على ٢٠ دولاراً، و أن أولادنا قرأوا خمسين كتاباً في العُطلة(بالتأكيد لم يكن يتوقع هذا الحماس من أولاده!!) لكن طالبة في الثانوية العامة اعترضت على ذلك بقولها: إذا ربينا الطفل على أن المال هو الحافز الوحيد للعمل، سنواجه معضلة كبيرة عندما يصل الطفل إلى سن الرشد و يُدرك أن الحياة لا تُدار هكذا.كان رأي د.مايكل من رأي الطالبة، يجب ألا نجعل المال المحفز الوحيد لنشاطاتنا الإنسانية. ضرب بعدها بمثال عجيب: في سويسرا، قررت الحكومة إنشاء مصنع للطاقة النووية و اختارت مكان ما، عرض على سكان المنطقة استفتاء على إقامة المصنع، أجاب: ٥١٪ منهم بنعم، فكرت الحكومة بتقديم مقدار مالي سنوي لسكان المنطقة مقابل بناء المصنع في منطقتهم (بدل خطر كما يُقال)ثم عرض عليهم الفكرة و افق فقط ٢٥٪ و السبب كما يقول د.مايكل أن الناس لم يرغبوا أن يظهروا أمام أنفسهم و أولادهم و الآخرين أنهم عرضوا حياتهم و حياة أولادهم للخطر من أجل المال! مثال آخر ضربه الدكتور، في اسرائيل كانت تُقام سنوياً حملةٌ للتبرع بالمال يقوم بها الطلاب، قررت الحكومةُ أن تقسم الطُلاب إلى ثلاثِ مجموعات: المجموعة الأولى لا تحصل على أي شيء مقابل جمع التبرعات بينما تحصل المجموعة الثانية على مكافأة مالية ١٪ مما يتم جمعه و المجموعة الثالثة تحصل على ١٠٪ من مجموع التبرعات كمكافأة لهم. المفارقة أن المجموعة الأولى حصلت على مقدار أكبر من التبرعات. ختم د.مايكل حديثه أن المال يساعدك على الحصول على المنتجات المادية لكن أن تحول أنشطة الإنسان إلى تجارة و مال و صفقات، فإن هذا يُدمر الجانب الأخلاقي و القيمي في الإنسان. ما زلت أذكر فيلماً مصرياً نسيته منه كل شيء (العنوان- الأبطال- المخرج-..)إلا فكرته، فكرة الفيلم أن فقيراً عرض عليه الحصول على مليون جنيه مقابل أن يتنازل عن مقدار ضئيل من دماغه، وافق الفقير لكنه في نهاية الفيلم تبين له أن المال يشتري الدواء لكنه لا يشتري الصحة، يشتري السرير لكنه لا يشتري النوم، يشتري الأكل لكنه لا يشتري تناوله.
مشاركة :