يسمونها في بعض الدول المتقدمة السلطة الرابعة، وتضمن كثير من الدساتير الدولية حريتها مثمنة دورها في تقصي الحقيقة، وتشكيل وتوجيه الرأي العام، والدفاع عن الحقوق، وكشف الفساد ومكافحته، تلك هي حرية التعبير والإعلام الحر صورة من صورها. إن ساحة الإعلام الحر والمسؤول لا تؤتي أكلها إلا إذا تحلت بقيم وأخلاق تكسبها ثقة المتلقي، ومن أهم هذه القيم: الصدق، والعدل، والأمانة، وتحري الأدلة والبراهين، والاتزان في العرض، والحيادية، والتناسب الطردي بين الجهد الإعلامي والأهمية الفعلية للمادة الإعلامية. يثري الإعلام الحر النقاش والبحث بإبراز الرأي الآخر، والنظرة المقصاة بلا سبب وجيه، وسماع الأفواه المكممة، فيعرض الإعلام الحر على المتلقي الرأي ونقيضه، ويترك له النظر والاختيار. إن أحادية الرأي فيما يسوغ فيه الاجتهاد وفي بعض الأمور غير محمودة؛ إذ تحرم المتلقي من النظر الشمولي من زوايا متعددة، وفي هذا السياق التعددي لابد أن يترفع الإعلام الحر عن تسييس المعلومة والحدث والتحليل اتباعاً لهوى شخصي داخل المنظومة الإعلامية، أو رضوخا لمطالب سرية لقوى سياسية أو اتجاهات فكرية لا يروق لها من الطرح الإعلامي إلا ما يوافق توجهاتها ويتواءم مع ولائها أو انتمائها. تتعدد أساليب التلاعب بالإعلام ومحاولات التحكم في المعروض الإعلامي، ولكنها تتفق جميعاً على غاية واحدة وهي الرغبة في التحكم في الرأي العام بالعرض الانتقائي لبعض المواد الإعلامية، والتركيز على وجهة ناقصة ومبتسرة للرأي وتضخيمها والدعوة إليها بتكرارها، ويقابل هذا التركيز الجزئي والانتقائي إغفال مقصود لزوايا أخرى تعين في فهم الأحداث، ولفت النظر بعيداً عن أجزاء من الحقيقة لا تقل أهمية عن المعروض وقد تفوقه، وفي بعض الأحيان تتواطأ بعض الجهات على إخفاء الحقيقة برمتها، وقد يتمادى بعضهم إلى التزييف وعرض صورتهم المصطنعة والمكذوبة عن الحقيقة والترويج لها، وللتلاعب بالإعلام صور أخرى غير مباشرة منها إعطاء هامش بسيط ومقيد من الحرية الإعلامية لغرض التنفيس شريطة البعد عما يسمونه بالشخصنة، ونظير هذا السماح للإعلاميين بذم الجريمة والانشغال بالعرض العام لها والتحدث عن أصغر ممارسيها يتناسون فضح المجرم الأكبر فيبقى حراً طليقاً يعيث في الأرض فساداً، وهم بهذا يرسخون في المجتمع مبادئ فاسدة مثل التطبيق الانتقائي للقانون والحصانة المضمونة للبعض من المساءلة والمحاسبة. لماذا يخاف بعضهم من الإعلام الحر، ويحاصره، ويخنقه، ويجرمه؟ وهل يرجع خوفهم إلى وجود أسرار مخفاة لديهم وأمور غير سوية تحاك في الظلام؟ وهل يصح ادعاء بعضهم بأن حرية الإعلام وحياديته وفاعليته تتناسب طرداً مع قيمة الفرد في المجتمع وما ينبثق عنها من مجالات الحرية المتاحة له ومستوياتها: حرية المعلومة، حرية الفكر، حرية الخلاف، حرية القرار، حرية التعبير، وحرية الاعتراض، وهل هنالك صلة أخرى بين حرية الفرد ومستوى نضج الممارسات الديمقراطية في المجتمع، وما هو الحصاد لخنق الإعلام الحر؟ وهل يثمر الشوك العنب؟ إن خنق الإعلام الحر وقولبته القسرية فكرياً أو سياسياً بعيداً عن الحقائق والأرقام والأدلة لا يثمر بالضرورة ثقة المتلقي بالمعروض الإعلامي الموجه، وهو كذلك لا يميت الرغبة في التعبير الإعلامي أو يوهنها، كلام صحف وحكي جرائد وهذه رغبة المخرج: هذه أحكام ذكية واستنتاجات واقعية توصل إليها الملايين من المتلقين الذين ظنهم المتلاعبون بالإعلام أغبياء ساذجين، لقد عرف المخدوع كثيراً من أسرار اللعبة لكثرة معايشتها، ولقد تعلم كثيراً وكثيراً بأن بعض إنكار الإعلام إثبات، وكثيراً من النفي تأكيد، والتفاخر بالسبق المزعوم والمنصب الريادي والترتيب الأول صحيح لفظاً ولكنه ليس صحيحا جهةً، ولعلهم نسوا الإشارة إلى أن الترتيب المقصود هو من ذيل القائمة وآخرها، وتعلموا كذلك أن كل جعجة إعلامية عدائية ضد الشيطان أو الطاغوت لا تعني بالضرورة البراءة من موالاته ونفي العمل معه يداً بيد وفي خندق واحد، لقد فطنوا بفطرتهم السليمة إلى الفرق بين ما ينشر للاستهلاك المحلي والحقيقة الأصيلة المعروفة في المحافل الدولية، وأيقنوا بأن محاكمات الإعلام الموجه لبعض الجهات والأشخاص وكيل التهم لهم جزافاً ما هو إلا جزء من اللعبة، فرب متهم للإعلام بريء من كل تهمة، ولعل كثيراً ممن يلمعهم الإعلام أولى وأحق بالاتهام وتبعاته، وعلمتهم التجارب كذلك أن نشر الوعود الكبيرة لا يعني بالضرورة الوفاء بها وأداءها لأهلها، فلقد نبهتهم الأيام بأن حرارة الموقف، والحماس تحت الضغوط، والتحدث بالرغبة في الحل الشمولي ما هي إلا مشاعر وانفعالات وقتية سرعان ما تبرد وتفتر بعد إحرازها تهدئة آنية، وتجاوزها لازمة أو مناورة مرحلية، فجعجة الأزمة لا يقصد بها إصلاحها باستئصالها من جذورها، وما هي إلا نوع من البرمجة العصبية العكسية والمخدرة. من الحصاد المر لخنق كلمة الحق في الإعلام الحر اللجوء لأساليب ومصادر أخرى للحصول على المعلومة ونشرها، وفي فضاء الشبكة المعلوماتية العالمية وبرامج التواصل الاجتماعي يجد المهتمون فسحة للنشر والتعبير عما لا يجد فسحة في الإعلام المكمم، والحرب سجال ولا نهاية لها بين الناشر الإلكتروني وجهات الحجب، فما يحجب اليوم يعود ظهوره في الغد بصور ومسميات مختلفة، وينسى بعضهم أن بعض الممانعة لا يولد إلا مزيداً من المعاندة، وأن الظل لا يستقيم والعود أعوج، وكل محاولة لتقويم الظل لن تفلح، وسوف يزداد عدد من يعرفون اعوجاج العود يوما بعد يوم، فلا تنطلي عليهم كل الحيل لتقويم الظل، ولابد ولا مفر من تقويم العود ليستقيم ظله، وخير الختام دعوة الجميع للاستقامة على نهج قويم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من عزيز رحيم.
مشاركة :