وشهد شاهد من أهلها في رسالة قومية بعث بها الفقيد د. رفعت السعيد إلى رئيس الحكومة المصرية في مقال كتبه قبل وفاته بساعات ونشر في الأهرام يوم 19 أغسطس تحت عنوان «شفاء العليل من مبتكرات شريف إسماعيل»، كتب في سياق وصفه للأوضاع التي تردت إليها الأحوال في مصر، دون أن يسمي الأشياء باسمها وهي الحصاد المرّ للثورة، بل باعتبارها من مبتكرات رئيس الحكومة هي رسالة لها أهميتها ودلالتها، فهو أحد الرموز الوطنية التي ظلت تناضل خلال خمسة عقود، لتحقيق أهداف ثورة 25 يناير «عيش، حرية، عدالة»، وشارك حزبه التجمع الوطني فيها بشبابه وبمرشح لرئاسة الجمهورية في أول انتخابات رئاسية تالية للثورة، وهي شهادة صدق قالها من لا يخشى في الحق لومة لائم وقد اقترب الأجل، وقد كان في حياته وفي نضاله موضع احترام الجميع، من اتفق معه في الرأي ومن اختلف معه، وكان المشهد الرهيب لجنازته شاهدا على ذلك. العدالة الاجتماعية فقد شهد في رسالته القوية إلى رئيس الحكومة المصرية بأن العدالة الاجتماعية التي قامت الثورة لتحقيقها لم تتحقق، بعبارات موجزة ولكنها قوية ومدوية، إذ قال: «إن من المبتكرات الطبقية لحكومة شريف إسماعيل وأسهل ما عندها أن تمد يدها إلى جيوب الفقراء لتمنح كبار المليارديرات كل الدعم وكل التسهيلات». فإلى أين يا سيدي؟ وإلى متى؟ والمصيبة الكبرى تأتي من المقارنة عندما يقارن الفقير الذي يزداد فقرا حاله المتدهورة بما يشاهده في البرامج الحوارية من أحاديث مفزعة عن ثروات تنسكب بلا حساب لأنها أتت بلا حساب على فرح الابن العزيز أو الابنة الأعز، وطائرات تشارتر تنقل حمولتها إلى أرقى أماكن أوروبا، ثم تتم استضافتهم في فنادق أفخم من خيالاتنا، والأفراح تستمر سبع ليال ويدوي صوت مقدم البرنامج الذي تلقى «سبوبة» كي يكشف النقاب معلنا أن الفرح تكلف 300 مليون دولار، فكيف سيكون وقع هذا الرقم الخيالي على الفقير؟ وتحفل بذلك خريطة الأغنياء والفقراء في مصر التي رسمتها بنوك عالمية وإحصاء للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، بأن هناك 7 مصريين في عداد المليارديرات، ونسبة 7.7% من عدد السكان أي نحو 630 ألفا في قائمة الأغنياء، وأن 90% من المصريين فقراء دخلهم الشهري يقل عن ألفي جنيه شهرياً، ومنهم 27% تحت خط الفقر. الحكومة لا تستمع إلى أحد ويقول الفقيد الراحل في مقاله إن الحكومة لا تستمع إلى أحد، وأن معدلات التضخم ارتفعت وفق الجهاز المركزي من 20.9% في يونيو إلى 34.9% في يوليو إثر ارتفاع أسعار الوقود، وزيادة التضخم تعني التهاب الأسعار، وهو التضخم الأعلى الذي لم تشهده مصر منذ مئة عام، كما التهبت أسعار كل السلع من ألبان وأجبان وبيض ولحوم. وإن الحل السهل لدى الحكومة هو طبع أوراق النقد التي زاد ما يطبع منها في هذا العام عما كان يطبع قبل عام 2011. الفساد ويتطرق الفقيد إلى الفساد في مصر الذي زاد من الهوة السحيقة التي تفصل بين الفقراء والأغنياء فيقول، وكارثة تصادم قطارين التي راح ضحيتها العشرات من القتلى والجرحى تدوي في أذنيه: «إن همسات تتسلل عن مليارات أنفقت بلا حدود وفساد مسكوت عنه بلا مبرر، فلماذا؟ وإلى أين؟». وتضيف الكاتبة الصحافية سكينة فؤاد في مقالها بصحيفة الأهرام في اليوم التالي تحت عنوان «مشروعات متعثرة أم وزراء ومحافظون متعثرون»، أن محاولة تبرير الكارثة بعدم توافر الإمكانات تقتضي الإعلان بشفافية كيف أنفقت المنح التي تدفقت منذ عام 2007؛ منحة إيطالية بـ600 مليون دولار، ومنحة إسبانية بـ260 مليون دولار، ومنحة من وكالة التنمية الفرنسية بـ50 مليون يورو، ومنحة البنك الدولي التي تجاوزت 100 مليون دولار، ومنحة الاتحاد الأوروبي 200 مليون دولار، ومنح من دول عربية شقيقة لشراء جرارات بنحو 600 مليون جنيه، ومنح عربية أخرى بنحو مليار جنيه، أين ذهبت هذه الأموال؟ وكيف أنفقت؟ وتتساءل أين أموال الصناديق الخاصة؟ وكيف تنفق؟ ولماذا أغلق ملف هذه الصناديق بعد أن أعلن مجلس النواب أنه سيفتحه لتتبين الحقائق حول ما يثار عن فساد في إنفاق أموال هذه الصناديق، وأن تُعلن بشفافية كاملة كيف تنفق أموال المصريين ومصير المليارات المنهوبة؟ من دولة الشلة إلى دولة القانون ويبدي د. رفعت السعيد في استهلال مقاله يأسه من التغيير والتبديل في القيادات، ويقول نحن نعرف الأسباب التقليدية التي ستزاح عن كاهل الكبار ومستشاريهم ذوي المكافآت الجنونية، والتي ستنتهي كالعادة بأن السائق هو المسؤول، وتشاطره ذلك الكاتبة سكينة فؤاد الفقيد في مقالها المشار إليه، فتقول إن المسؤولية تقع دائما على العمال الذين يكدون ويعرقون ويشقون في هذا البلد، ثم تعلق في رقابهم جميع الآثام والكوارث المترتبة على إهمال السادة المسؤولين والوزراء والمحافظين ورؤساء الهيئات الغارقين في النعيم والرفاهية، وفي مستويات معيشية لا يمكن أن تتوافر إلا في أكثر المجتمعات رفاهية وثراء. وتضيف سكينة فؤاد في المقال سالف الذكر أن «من علامات الاستفهام التي لم تجد إجابة... لماذا تم تغيير وزير النقل الأسبق الذي تحدث وأكد الإمكانات والفرص الواعدة التي تمتلئ بها الهيئة العامة للسكك الحديدية وإمكان الاعتماد على الإمكانات المحلية ودون الحاجة إلى قروض وخطط لإنشاء جهاز وقاعدة بيانات لرصد مواطن الخطر وتحليل كل ما وقع من حوادث وبما يحقق أكبر قدر من علاجها وتجنبها؟ وقد وجدنا الإجابة عن سؤال الكاتبة الكبيرة في مقال نشر للدكتور نصر محمد عارف في صحيفة الأهرام تحت عنوان «من دولة الشلة إلى دولة القانون»، مصر هي دولة الشلل، ومن ليس له شلة لا مكان له تحت الشمس، مكانه في موضع بعيد لا مكان ولا مكانة فيه، ومن أراد أن ينجح ويحقق مصالحه المادية أو المعنوية فعليه بالشلة، ولكن شلة العصر الحالي لها تركيب آخر، فقد صار الإعلام جوهرها، فالشلة لا تستطيع الاستمرار بدون غطاء إعلامي، لذلك لا بد من مكون إعلامي فيها، لذلك لجأ رجال أعمال عصر الانفتاح المشؤوم إلى إنشاء قنوات فضائية، وامتلاك صحف، وتوظيف كتاب كبار ومثقفين ضمن هذه المؤسسات الإعلامية التي تخدم الرأسمالية الفاسدة المتوحشة، وأصبح ذلك عرفاً وقانوناً يقبله الجميع، ويسعون إلى الالتحاق به، وتقبله الدولة التي هي في ذاتها مكونة من منظومة معقدة من الشلل. لم تعد الشلة وصفاً سلبيا في مصر، بل هي حقيقة واقعة، لا ينكرها أي باحث محايد يفهم كيف تعمل النظم السياسية، الشلة هي التي تحرك مصر، وتحافظ على سيرورة النظام، وتحفظ توازنه واستمراره، لذلك سيكون من العبث القضاء عليها أو إلغاؤها، وإنما العمل على الانتقال من دولة الشلة إلى دولة حكم القانون.
مشاركة :