النسخة: الورقية - دولي لن يطيح التعايشَ الإسلامي-المسيحي مقتلُ الشابة الأردنية بتول حدّاد التي هشّم والدها رأسها بصخرة لاعتناقها الإسلام، لكنه سيترك ندوباً كبيرة على جسد الاجتماع الإنساني الذي توهّم أنه حسم الأمر حينما أطلق للكائن البشري الحرية على مصراعيها ليمارس ما يشاء في مختلف وجوه الحياة، وفي مقدمها حرية الاختيار. ولعل ذلك ما هجست به بتول، إثر محاضرة عاصفة استمعت إليها في الجامعة الأردنية، حيث تدرس، من الداعية السعودي محمد العريفي، فأشهرت إسلامها أمام أبيها الذي يقطن في مدينة عجلون الجبلية المطلة على قلعة الربض التاريخية الشاهقة التي بناها، ما بين عامي 1148-1185م عز الدين بن أسامة بن منقذ، أحد قادة صلاح الدين الأيوبي، وتعدّ مصدر افتخار أهالي المدينة بسائر أديانهم. ولئن تزامن مقتل بتول مع مقتل فتاتين أخريين بذريعة «الدفاع عن الشرف»، فإنه زاد مع عمق المعضلة والتباسها، إذ يتضافر الاجتماعي والديني، ويتعانقان في نقطة ثقافية واحدة جذرها التخلّف، وسيطرة الثنائيات الضدية العاصفة التي يتراءى لها العالم من ثقب الذات المقهورة التي تريد أن ترمم ما انكسر وتهشّم عبر إسالة دم الضحية، لأن من شأن ذلك الدم أن يستدعي الأساطير المؤثثة للوجدان الجمعي المأفون الذي ينظر إلى الموت باعتباره خلاصه وسلّمه إلى الحياة! لذلك يظل لسان حال أبي بتول، وقاتلي الفتاتين المتهمتين بارتكاب «المعصية»، أنهم يستعيدون «الشرف» المهدور باللذة ذاتها، وشعور النشوة نفسه، على رغم اختلاف المعطيات، وعدم وجود رابط مرئي بينها! جرائم القتل بداعي الشرف في الأردن لا تزال من دون حل جذري، وتحظى بتواطؤ اجتماعي، وتسهيلات قانونية من خلال أحكام مخففة تشجع الذكور على قتل الإناث حتى لو كانت الجريمة رؤية أخ أختَه (أو إحدى محارمه) تترجل من سيارة تاكسي كان فيها شاب آخر ربما ركب السيارة، صدفة، من على الطريق، وهو أمر يفعله بعض السائقين كسباً لمزيد من المال. وما يعضّد هذا الأمر أن دراسة أثبت أن غالبية الفتيات الأردنيات اللائي تمّ قتلهن بذريعة «الشرف» كنّ عذراوات! أما حكاية بتول وإن كانت تنتسب في بعض وجوهها إلى الجذر الاجتماعي والثقافي ذاته، فإنها فضلاً عن ذلك، تكشف عن تغلغل السلفيات الدينية وقوتها التسلطية في المجتمع، بحيث لا يغدو الاختيار الديني حقاً معطى للفرد، كما يتعين أن يكون، أو كما تنطق بذلك القاعدة الأخلاقية المؤسَّسة على فكرة الفعل الحر. فثمة ما هو أشد سطوة من ذلك، وهو ما يمكن تسميته الدفاع عن النقاء الديني، بحيث يكون كل من يجرؤ على إفساده «مرتدّاً» ويستحق القتل، من دون أي اعتبار للقيم المدنية، ولسلطة القانون. ففي حالات القتل الثلاث جرى توجيه التهمة وتنفيذ حكم الإعدام من جانب الأفراد الذين وضعوا أنفسهم فوق الدولة، ما يجعل أفعالهم تنتسب إلى مرحلة ما قبل الدولة، أي مرحلة الغاب السابقة لتقليم أظفار الوحش الآدمي. وإزاء هذه الوقائع، التي لا يختصّ بها الأردن من دون سواه من دول العالم العربي والإسلامي التي تنتسب الى العالم الثالث، فإن الدرس، الذي يبقى غارساً سكّينه في القلب أن المظاهر المدنية والحضارية ووجود 26 جامعة و50 معهداً متخصصاً في بلد كالأردن لا يتجاوز تعداد سكانه الملايين الستة ويعد الأكثر تعليماً في المنطقة، ووجود مسجد كبير لا يبعد أمتاراً عن كنيسة عريقة في منطقة العبدلي في وسط العاصمة عمّان... كل ذلك لم يعنِ شيئاً لدى والد بتول الذي نقلت المواقع الإلكترونية صورة الصخرة التي حطم عليها جمجمة الفتاة البريئة التي توهمت ربما أن «أبناء إبراهيم» يتنقلون في غرفهم الروحية بلا أي مشقة، ما دام إلهُهُم إلهاً واحداً! ليس أمراً عابراً ما جرى في مدينة عجلون. كما أضحى أمراً شبه عادي أن يسمع المرء عن فتاة قضت نحبها بذريعة الشبهة. والأمر الأكثر عادية أن تورد الأنباء مقتل شباب في عمر الزهور في إحدى كليات العلوم الاجتماعية والإنسانية في جامعة عريقة لخلاف على فتاة، وإطلاق نار يسقط ضحيته أبرياء نتيجة اقتتال أبناء عشيرتين، بسبب شجار أطفال، وقد يتبع ذلك إغلاق طرق رئيسة، وإحراق مقار ومحال تجارية ومبانٍ حكومية. الأردن شعب في مرجل يغلي. حتى إن كاتب هذه السطور، الذي يقيم في المغرب، حينما يتذكر بلاده وويلاتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، يأخذ دمه يغلي في العروق، لخشيته الأكيدة من أن الاحتقان المتفاقم في الأردن ينذر بما لا يبعث على الطمأنينة أبداً! * كاتب وأكاديمي أردني
مشاركة :