ثمة كتب تهز مشاعرنا؛ وكتب تبلبل خواطرنا وتزلزل أفكارنا؛ وأخرى نتمنى لو خطها يراعُنا، من شدة تماهينا مع مضمونها، واستجابتها لحاجات ملحة تستدعي منا نحن أن يكون لنا فيها كلمة، وهذا ما حدث لي أخيراً مع كتاب الروائي والجامعي الفرنسي جان مشيل دولاكونتي وعنوانه «رسالة مواساة الى صديق كاتب» (روبير لافون- باريس، 2016). ليس صاحب هذا القلم جديداً عليّ، روائياً دقيقاً، وكاتباً حصيفًا ذا أسلوب، وباحثًا سديدًا، خصوصاً شخصاً لا يضع لسانه في جيبه، وفق التعبير الفرنسي، لا يخشى في الحق لومة لائم، فلا يوقّر المزعومين في ميدان الأدب والفكر، وتهافت الأوساط الأدبية والإعلامية في صناعة النجوم والجوائز، ضرب من المتفشي في مجتمعات مطبوعة بالاستهلاك السريع والزبونية وتلفيق الموضة. إنه يصدع بالحق، أو ما يراه هو الصواب في وجه موجة زيف مشين يعمّ ساحة الأدب في فرنسا منذ وقت، تُعلي أسماءَ وتصمت عن أخرى، وكم تتوّج بجوائز، وتكرّس ذوقاً وثقافةً وقيَماً وسوقاً، بوسائطِ زمن جديد. وهذا ما دفعه لوضع كتابه بالعنوان أعلاه، اقترح له صيغة رسالة موجهة إلى صديق كاتب، قد يكون حقيقيًا أو مفترضًا، تعِلّةً لطيفة باصطناع مرسل إليه، فتأتي الكتابة حوارية، يخفف من أفكارها وأحكامها نزعة سِجالية هي من جنس هذا العمل المسمى pamphelet، بمعنى الهجاء، ولا يقلل من شأنه. شأنٌ أضحى يعنينا كثيراً نحن أبناء البيئة الأدبية العربية، تشهد تحولات على مستوى النشر والذوق الأدبي وعلاقات الإنتاج الثقافي وتسويق المنتج عبر الإعلام ومنابرَ تفترض أنها ذات صدقية وأصبحت نوعًا ما تمتلك» سلطة» تتويج المنتج الأدبي، الرواية هنا، بمكافأة الجائزة. ما خلق رهانات لم تكن مطروحة بقوة في الماضي، والأخطر أن هذا كله بات يمسّ مفهوم الأدب، ويتدخل، وبكثير من الاعتباط والمجازفة في وضع معايير وتصورات ليست من الأدب في شيء، فما هي؟ أيقونات زائفة يتدخل دولاكونتي ليقدم مرافعته الجريئة، بصوت من يملك ثقافة أدبية عميقة، من ينتصر مسبقاً للحداثة الأصيلة والكتّاب الرفيعين، مندّداً بالوضاعة والضحالة وأخلاق زور. حفزّه لهذه المرافعة ما سمعه لكاتب صديق، في جلسة في إحدى المكتبات، عرض فيها همومه وإحباطه، وأعرب فيها عن فقدانه كل أمل في الحياة، وأنه لم يعد له مكان في المجتمع، نتيجة غبنه كاتبًا، وها هو يتقدم ليواسيه، ليصدّه عن اليأس، بل الانتحار، وبطريقة هي منهج دولاكونتي. كيف؟ أولاً، بإدانة شاملة وكاسحة للوسط الأدبي والإعلامي، وخصوصاً السمعي البصري، وكشف زيف معاييره وحِطّة أسلوبه، وتمجيده السهل، وتملق الجمهور وصناعة أيقونات زائفة. ثانيًا، التنديد بما ينعته بالرشوة الثقافية التي باتت تهيمن على كل الميادين، ومنها إعلاء قدر كتاب وكاتبات حظهن قليل من فن وثقافة وأسلوب بخاصة، وسبغ شمائل مثيرة عليهن، بحكم المبيع أو ترويج فاسد. ثالثًا، تثير قضية المبيع فعلاً أكثر من سؤال، عن مصدرها، عواقبها، ألقيمة أدبية حقاً؟ استجابةً لسوق؟ أم لذائقة جمهور؟ فتبعات هذا على مفهوم الأدب، والكاتب، والكتاب المجيدين الحقيقيين. رابعًا، هتك حجاب الجوائز الأدبية، وافرة جداً في فرنسا في كل المجالات، تتعدى 3000 سنويًا، تُعلي بحق قليلاً، وكثيراً بباطل، رفع المبيع قيمتها الأولى، في وقت كان هنري ميشو يعتبر أن توفره على أزيد من 1500 قارئ يضرّ بسمعته؛ خامساًـ وهذه أهم قضية يثيرها دولاكونتي ليخفف عن صديقه الكاتب إحباطه وما يشعر به من غبن، لحد أنهما دفعاه لإعلان الانسحاب من الحياة الأدبية والصمتـ قضية تتلخص بسؤال: «ما الأدب اليوم»؟ بغية الوصول إلى إجابة ممكنة، يعمد إلى تقسيم الكُتاب إلى صنفين: «كُتاب متطلِّبون، واعون بمشاق مهنتهم، ونقيض هؤلاء». في أي جملة يبدعها المتطلبون: « تحسّ معهم كأنهم سيخوضون عباب بحر، وكل فقرة يكتبونها هي أوديسة». يتّسم أدبهم بالنُّدرة والصعوبة، وليس لهم أن يحلموا بجمهور واسع ولا هم يتطلعون لهذا. لا بد من التنبيه أن المرافعة تنصبّ خصوصاً على الرواية لرواجها وتنطّع مشاهيرها كصنيعة للإعلام، وليس على الكتاب بإطلاق، والسبب جوهري ووجيه. هناك الكتاب، وثمة الروائيون، وما ينبغي الخلط بين الإثنين، وهذا هو مدخل دولاكونتي، وبوصلته في تحديد الأدبي ما يجافيه أو أي نثر عابر، مُسفّ. يقول بنبرة ساخرة إنه أضحى سائرًا أن يلقب كاتبًا كل من يرقن «على حاسوب»، اصطلاح متداول الى حد أنه يطبَّقُ بلا تمييز بين من هو حاصل على جائزة نوبل، ونجمة سينما تستعرض تفاصيل مضجعها، أو لاعب كرة طاولة يروي سيرته. لكي نعرف الأدب (على الوجه السليم) ومعه الكاتب، لا بد من الاحتكام إلى عنصرين، معيارين حاسمين: أولاً، كيفية استعمال اللغة، وثانياً، إلى الأسلوب. إذ من العُسف تمامًا أن نضع صفة كاتب على روائي بلا أسلوب مميز، أو ركيك، مضطرب، أو أسوأ من قبيل استعماله كليشيهات. وبحكم وقوع الرواية اليوم في دائرة الضوء الإعلامي، فإن أيّ كلام أصبح يصنف روائيًا، ما جرّ الكارثة على الأدب مفهومًا ومستوى، فيجري استرخاصه بل الاستخفاف به، فلا يؤخذ بجد، إلى حد حدوث ما يشبه الطلاق بين الأدب والرواية، وهذه أضاعت مكانها فيه. واضحٌ أن هذا التصنيف يـأتي من أديب ودارس متطلِّب، يولي الاعتبار للجمالية، ولا يقبل، بعبارته، إلا بالكاتب الأصيل، من يعنى بلغته وأسلوبه، ولا يبتذل الفن، وكل كلمة عنده توزن بمثقال ذهب، أو يسوِّي في تعبيره الكلام العادي بالقول المخصوص بأدبيته. من يصنعون ويجددون الأشكال. خلافاً لمن يُروّج لهم برُخص وزور، يسميهم «المحدثين» المتعجِّلين، لا يطالعون، يكتبون كل ما يخطر ببالهم، لا تاريخ لهم، ولا ينتسبون إلى سلالة أدبية ويأنفون من هذا، لا كأسلافهم الذين كتبوا في ضوء ما قرؤوا. خاضعون لآلية وسياسة دور نشر تريد النافع، المباشر، بلا «لف ودوران» بناء على تصور لجمهور(كذا). لا غرابة أن يكون فلوبير هو المرجع الأم للأدب الرفيع، في وجه نقيض استهلاكي وضيع. هنا يحضرنا للاستدلال ما كتب فلوبير في رسالة إلى موباسان (16 شباط - فبراير 1880):» حين نكتب جيدًا، فإننا أمام عدوين: الجمهور، لأن الأسلوب يرغمه على التفكير، كما يجبره على العمل؛ وثانيًا الحكومة، لأنها ترى فينا قوةً، والسلطة لا تحب سلطة أخرى غيرها». تاريخ الأدب ليس دولاكونتي اول من نعى الأدب، ولا من قام بجرد لحالة التلف والانهيار التي يعرفها سوقه، وللرواية في مساراتها تنقلت بين مراحل مجد وتدهور، واليوم اختلطت بالسيل الصحافي الذي ليس من شأنه ربط القول بصورته الفنية، وصارت امتداداً له وبلغته، لم تعد تولي اهتمامًا للغة الأدب، التي ترسم فعلاً الحدود. لعلّ الناعي الفرنسي يقول بلغ السيل الزبى، ولذلك لا ينفك وهو يواسي صديقه الكاتب، يسرد الأسماء، ويستعرض تاريخ الأدب والرواية بخاصة في أزهى مراحلها مبرزاً مدارج تطورها عابرة للحظات حاسمة من التطور الاجتماعي والتحول الحضاري، يبرهن أنه ليس محافظاً رجعيًا البتة، ولكنه ضد الابتذال، لذلك يقدم للقراء نماذج من قراءات زمنه وذوق القراء، وما ينسجم مع فكرة التحديث، في ما صدر عن كاتبات، مثل فرانسواز ساغان ومارغريت دوراس، بلغن شأوهن باستحقاق، وبين من يرى أنهن ابتززن الشهرة والرواج بروايات ملفقة وبلا لغة ولا أسلوب، بزعم العادي والمبذول. هكذا يصبّ جام غضبه على آني إرنو تزعم اطّراحها لأي أسلوب تعبيرًا لرفضها للغة المهيمنين، للبنيات الاجتماعية، بخاصة المناهضة للمرأة. كذلك الشأن مع كرستين أنغو، في رواياتها الغارقة في بؤرتها الذاتوية واستثمارها لأقصى الحدود تيمة السفاح في حياتها الشخصية ضمن كتابة ما يسمى التخييل الذاتي السيَرية. وإنه لشتان بين (إفرازات) هذين الكاتبتين، لهما نظائر ضمن ماكنة النشر والترويج بأنواعه، وبين النصوص السردية الفريدة لمارغريت دوراس، اعتمدت بدورها التخييل الذاتي تجنيسًا بلا إسفاف، بإيلاء أكبر عناية للغة وأسلوب تخصان صاحبتهما وترقى بهما إلى ذرى شعرية حقاً. من نافلة القول، إن جرد محاكمة دولاكونتي تنطبق بسهولة على ما يجري حاليًا في الساحة الأدبية العربية، وتشير بأصبع الاتهام الى ظواهر وحالات غير مقبولة، بَرِمنا من كثرة عدم استساغتنا لها، وتنديدنا بها، لفظاً فقط، فيما نرى، بخصوص الرواية، والأدب عموماً، أي جناية ترتكب باسمهما ضد الأدب، وكل سكوت عن هذه الجناية تصريف لها وتواطؤ معها.
مشاركة :