المُبدع ينظر لكل أمر يفهم لغته بعين الاتهام، وببصيرة الانتقاد. فالأصل هو النقص أو الخطأ في كل حديث أو عرض لرأي أو دراسة. فأحدها، إما النقص أو الخطأ حاصل لا محالة. فالنقصان في عمل البشر حقيقة كونية لا بد منها، والكمال مستحيل إلا على الله. وجعل الأصل في الفكر هو التهمة مبدأ النقد كما هو جوهر السفسطائية. والنقد المنطقي أمر إيجابي بناء، والسفسطائية جنون وخبل. وبين السفسطائية والنقد المنطقي الفكري النافع خيط رفيع، وإن عظم الفرق بينهما. فلم أجد في السفسطائية أمرا نافعا، إلا عموم فكرتها، وهو عدم أخذ الأمور كمسلمات بل بأن كل النقيض وعكسه محتمل، ولكنهم وقفوا هنا، فانتهوا إلى اللاوجود. فالسفسطائية تستخدم المنطق في إثبات الشك، ثم تقف عند التشكيك فلا نفع ولا منفعة. وأما النقد المنطقي الفكري فيستخدم الشك لتحفيز المنطق لاستخدامه في إيجاد الحقيقة أو تطوير الحل أو الرأي أو القرار. فمن أجل عدم الوقوع في فخاخ السفسطائية، فيجب ألا يُطرح فكر ولا فهم إلا بمثال تصويري تمثيلي غير مُجرد، أو بشاهد معلوم معروف. فلا ينفع طرح عقلي إلا أن يُثبت منطق نفسه ويثبت فهم صاحبه له. وذلك عن طريق تصويره حيا، بأمثلة وسيناريوهات يعجز الآخرون أن يخرقوا منطقه بمثال لا ينضبط مع نتيجته. أو أن يدعم منطقية رأيه بشواهد معلومة جامعة بالاتفاق أو بالاختلاف، لا يستطيع المناظر الإتيان بشاهد ينقضه. لذا فالقاعدة أن أي دعوى أو رأي أو منطق يُطرح دون مثال توضيحي أو شاهد واقعي، ما هو إلا منطق الفلاسفة السفسطائيين أو من جدل جدلية البيزنطيين، أو غطاء لجهل المُتعالمين والمتحذلقين. فالله أعلم أن غالب الناس، تلدهم أمهاتهم بقدرات عقلية عالية، إلا أنها قد كُتمت وحُجرت منذ الطفولة، فنمت أعضاء الإنسان، فأصبح شابا يافعا، بينما لا تزال قدراته العقلية محبوسة في مهدها في أصل العقل الإنساني، لم تنمُ ولم تمت. فمتى جاءتها فرصة التحرر فخرجت: نمت وتطورت. وإن لم تُسخر لها الأسباب، ماتت أو تشوهت أو أُعيقت فما عادت القدرات العقلية قابلة للنمو. فخلاصة القول، ان وضع الطرح المطروح موضع الاتهام هو كأصل لعمل التفكير، لا تبع لسبب يستحفز الاتهام، الذي يخلق ترك التبعية ويخلع الاستسلام الفكري لقول الخبير والمختص، والانضمام لقطيع المجتمع وأسر الثقافة. والوقوف هنا سفسطة، فلا بد من اتباع التشكيك بالبحث، إن كان لا يملك العلوم الضرورية. ولا بد من نفس واثقة تلتزم بشرط المعرفة وشرفها، فتعترف بالخطأ، وتُسجل الفضل لصاحبه. فمتى توافر هذا في شخص، تقدمت طروحاته فسبقت زمانه، وخرجت مقدراته الفكرية من محاجرها. فسرعان ما يعتاد عليها فتتفجر عبقرياته الإنسانية. التي ما هي في الواقع إلا صفات فطرية عامة في بني البشر كلهم، لم يُحسنوا هم في تطويرها، أو قد ظلمهم مجتمعهم بوأدها بتدليل وتنعيم، أو بإعاقتها في مهدها بالكبت والتعنيف، أو بتشويهها بحشو عقولهم بأساطير وأكاذيب.
مشاركة :