الحسين الزاويما فتئت وحدة العراق وسلامة أراضيه ونسيجه المجتمعي تتعرض للعبث والانتهاك منذ الاحتلال الأمريكي سنة 2003، وذلك بعد أن عمل هذا الاحتلال الهمجي على تنفيذ خططه الجهنمية من أجل القضاء على أسس الدولة المركزية في بلاد الرافدين، ووضع قواعد سياسية مشبوهة ترتكز على ضوابط دستورية مزيّفة تهدف إلى شرعنة المحاصصة الطائفية المستندة على مفهوم غامض للدولة الفيدرالية، في بلد يعاني القسم الأكبر من سكانه من استقطاب مذهبي وعرقي في منتهى الحدة والخطورة. ويمكن القول إن الفصول الراهنة لمحنة العراق تجاوزت كل الحدود السياسية والمرجعيات الدينية، ومسّت كل جغرافيته المعقدة، وهي تطل علينا من خلال عناوين مثيرة وتحت مسميات يصعب حصرها، تنطلق من نقاط تماس ذات إحداثيات متداخلة، تسهم جميعها في مضاعفة حالة الغموض التي تكتنف المشهد العام بكل عناصره السياسية والمجتمعية والاقتصادية والدينية. ونستطيع أن نزعم أن مدينتي الموصل وكركوك، تختصران الآن خريطة المحنة العراقية بكل تفاصيلها ومحطاتها الكبرى، فقد أضحت الموصل تمثل عنواناً بارزاً للموت والدمار، وتحوّلت كركوك إلى نقطة ارتكاز واستقطاب رئيسية بالنسبة لكل المكونات العرقية للشعب العراقي من عرب وأكراد وتركمان، في ظل التراجع المتواصل لسلطة وهيبة الدولة المركزية في بغداد. وفي اللحظة التي ما زال الخطاب الرسمي يتحدث فيها عن تحرير الموصل من سيطرة تنظيم «داعش» الإرهابي، يتوارى السؤال المركزي المتعلق بالطرف أو الأطراف التي تتحمل المسؤولية المباشرة في انتشار هذا التنظيم عبر كل هذه الرقعة الشاسعة من الأراضي العراقية، في ظل وجود قواعد عسكرية أمريكية كبيرة تتوافر بداخلها ترسانة ضخمة من الأسلحة المتطورة ووسائل الاستطلاع الجوي الأكثر دقة في العالم، فضلاً عن مكاتب وفروع لجهاز استخبارات بات قادراً على احتساب أنفاس البشر من شمال الكرة الأرضية إلى أقاصيها الجنوبية. لقد جرى بالأمس فقط، وقبل أسابيع قليلة من التطورات الهائلة التي شهدها مسار الأزمة السورية مؤخراً، ارتكاب مجزرة مروّعة من قبل طيران التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب بقيادة واشنطن من خلال استهداف مناطق مدنيّة في الموصل أسفرت عن مقتل أكثر من 500 عراقي من بينهم 180 طفلاً، وتم تبرير ما حدث على أنه مجرد خطأ في تقديم إحداثيات الموقع المستهدف من قبل طيران التحالف الدولي. وتأتي هذه «الأخطاء» الأمريكية المتتالية، في مرحلة مازالت فيها مواقف الإدارات الأمريكية المتعاقبة تتسم بالكثير من التناقض بشأن القضايا السياسية الكبيرة وفي مقدمها ملف مكافحة الإرهاب، حيث يبدو الرئيس الأمريكي الجديد في عجلة من أمره من أجل غلق ملف داعش الذي فتحته الإدارة السابقة على مصراعيه؛ وبخاصة وأن هذا الرئيس ، سبق له منذ بضعة أشهر، مع انطلاق حملة انتخابات الرئاسة الأمريكية، أن وصف بداية عملية تحرير الموصل، بأنها تمثل انطلاقة خاطئة، وأكد في تغريدة له في موقع تويتر بتاريخ 23 أكتوبر/تشرن الأول الماضي، أن «الهجوم على الموصل في طريقه لأن يتحوّل إلى مصيبة كبرى، لقد أرسلنا لهم - يضيف ترامب- إشارات منذ شهور. إن الولايات المتحدة في طريقها لأن تبدو كمجموعة حمقى». وردت عليه منافسته كلينتون بالقول إن مثل هذه التعليقات تعتبر «غير مسؤولة»! وبالتالي فإنه لا أحد يمكنه أن يتنبّأ بتطورات الأحداث المتعلقة بمسار محاربة التنظيم الإرهابي في العراق وسوريا، في ظل وجود إدارة تتخبط بين الإقدام والإحجام ولا يبدو أنها حسمت أمرها حتى الآن، بشأن تحديد سلم أولوياتها في منطقة الشرق الأوسط، الأمر الذي يؤكد أن مسلسل معاناة العراقيين في مناطق سيطرة «داعش»، سوف يستمر لشهور وربما لسنوات مقبلة؛ وبخاصة وأن الموصل تحوّلت إلى محطة صراع رئيسية ما بين القوى الإقليمية وفي طليعتها إيران وتركيا. في لحظة تاريخية فارقة يميّزها الانهيار شبه الكامل لمنظومة الأمن القومي العربي المشترك، لاسيما بعد تحييد مصر وإلهاء دول الخليج بالملف اليمني، وتدمير سوريا. وعليه فإنه وبموازاة انشغال الجميع بملف مكافحة داعش تعمل القوى الانفصالية في المنطقة على استثمار هذه الفوضى العارمة من أجل تأسيس كيانات مستقلة، سواء في العراق أو في سوريا، حيث عمد مؤخراً زعماء إقليم كردستان العراق إلى محاولة توسيع الحدود الجغرافية لإقليمهم، الذي بات يتمتع باستقلالية شبه مطلقة عن الدولة المركزية، من خلال رفع علم الإقليم فوق المباني الحكومية التابعة لمحافظة كركوك، المتعددة الأعراق والغنية بالنفط. وهو أمر بات يبدو للكثيرين من باب تحصيل الحاصل لاسيما بالنسبة للقوى الغربية بقيادة الولايات المتحدة التي دمرت العراق وحلّت جيشه، وتدّعي الآن مساعدته من أجل محاربة تنظيمات إرهابية ساهمت هي في خلقها، بموازاة إسهامها في تحويل الميليشيات الكردية إلى جيش نظامي كامل العدة والعتاد. ونستطيع أن نطرح في هذه العجالة أسئلة كثيرة بشأن معالم مستقبل العراق في ظل دعوة الأكراد إلى الانفصال عن بغداد؛ فهل سيتمكن الشعب العراقي من السموّ فوق خلافاته ويتجاوز محنه وجراحاته، من أجل الحفاظ على أسس دولته الوطنية المتعددة الطوائف والأعراق؟ سؤال لا نشك في قدرة العراقيين على الإيفاء بمتطلباته على مستوى الشموخ والأنفة والقدرة الفائقة على التحدي، لكننا نظل نتوجس خيفة من الأطماع الإقليمية والدولية التي تتربص بالعراق وشعبه الدوائر، وتهدد وحدته وكيانه الوطني. hzaoui63@yahoo.fr
مشاركة :