يعتبر نجيب العوفي أحد المؤثرين الأساسيين في المدونة النقدية المغربية، لما لمساره الحافل بمؤلفات أغنت المكتبة العربية، فصاحب "درجة الوعي في الكتابة" و"مساءلة الحداثـة" ما فتئ مند أولى دراساته الأكاديمية، يوسع من مشروعه النقدي عن قصيدة النثر، التي كان له فيها أطروحات وتنظيرات أثارت جدالا وسجالات واسعة، في المشهد الثقافي. في هذا الحوار نقف على محطات تظل لازمة في منجز هذا الناقد، ونوسع معه النقاش حول قضايا الحركة النقدية اليوم. قلت له: تقول إن كثيرا من الشعر الذي يملأ مشهدنا الشعري ، يخلو من اللغة الشعرية ، والإيقاع الشعري. وإن شعراءنا الجُدد يعانون من الكسل اللغوي . أليس ذلك راجعا لبنية قصيدة النثر ذاتها، هذه القصيدة التي لم تحقّق الوعد الذي انطلقت منه؟ ففال: يُعيدنا هذا السؤال إلى الشّجون الشعرية السابقة. وقد أثرتَ في سؤالك ولامستَ مناطق حسّاسة وساخنة بصدد راهن الكتابة الشعرية، من خلال كلمات - مفاتيح من قبيل / اللغة الشعرية – الإيقاع الشعري – الكسل اللغوي – قصيدة النثر. وهي الكلمات المفاتيح التي كانت محورا ومَدارا لكثير من مُقارباتي ومُداخلاتي. من بَدَاءة الأمور، أن الشعر هو صفْوة اللغة ورحيقها. هو اللغة الثانية، المجازية والاستعارية المقطّرة ضمن اللغة الأولى، المعجمية – التّداولية. وهذا يقتضي من الشاعر بالطبع، إحساسا جماليا فائقا باللغة واستعمالا مُرهفا ومُحكما لها. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، فإن لغة الشعر المقطّرة هذه، تقتضي نصيبا أو حدّا لا مُعدى عنه من الموسيقية والإيقاعية، وإلّا فقد الشعر عنصرا أساسيا في شعريته وخُصوصيته، وتماهى مع النّثر. ولا أعني بالموسيقية والإيقاعية هنا بالضرورة، الالتزام بالعروض الخليلي والنسج على منوال القصيدة العمودية، مع مشروعية ذلك.. بل أعني الحفاظ على موسيقية ونغَمية الجملة الشعرية، واللّفظة الشعرية، والقصيدة الشعرية ككل، سواء وافق ذلك إحدى الدوائر التفعيلية أم تجاوزها وانْزاح عنها. والشرطان المُومَأ إليهما، شرط اللغة وشرط الإيقاع، يكادان يغيبان ويتواريان من كثرة كاثرة من النصوص الشعرية التي نقرأها. وهو ما يُعزى بالفعل، إلى الكسل اللغوي المُفْضي بدوره إلى الكسل الشعري أو الهشاشة الشعرية. أي غياب الشعر عن الشعر. وقد دخلت قصيدة النثر على الخط بشكل واسع وفاقع، وكانت سلاحا ذا حدّين، ومطيّة ذَلولا لكثير من الشعراء المتخفّفين – أو المُتأفّفين من أعباء وقيود اللغة والإيقاع. وقصيدة النثر كما هو معلوم، ليست لها قواعد وقوانين محدّدة وقارّة يمكن الاعتصام بها . بل هي أفق مفتوح للكتابة والقول. وقد حاولت الباحثة الفرنسية سوزان برنار في فترة مبكّرة التنظير لقصيدة النثر وتجْلية بعض ضوابطها وقوانينها، لكن محاولتها كانت نظرية، لم تُفلح في سدّ ذرائع قصيدة النثر. مع الإشارة إلى أن الباحثة كانت تتحرّك في فضاء أدبي غربي في الأساس، وكان النص الفرنسي مادتها وموضوعها، وهو ما يطرح بعض التحفّظات بصدد تطبيق فُروضها وطُروحاتها على النص العربي، بحُمولاته وطقوسه اللغوية والبلاغية والجمالية الخاصة. لقد كرّست قصيدة النثر، ضرْبا من الليبيرالية – الشعرية، أشرعت الباب على مصراعيه أمام المتطفّلين على حِياض الشعر وغير المؤهّلين لإبداعه. وأصبحت هذه الحِياض مُسْتباحة للجميع. وهو ما يدعو في رأيي، إلى إعلان حالة طوارئ نقدية على الشعر. وأضاف: مرجعيا، ما يفتأ النقد العربي بعامة، يتحرّك في كَنَف النقد الغربي بمختلف تياراته ومستجدّاته، سائرا على منواله ومُهتديا بهدْيه وقابسا من كُشوفه ونادرا ما يعود إلى المرجعية العربية التراثية لاستثمارها وتوظيفها في دراساته ومُقارباته الميدانية. إن النقد الحديث يعود إلى النقد القديم، كمادة وموضوع للبحث الجامعي في الغالب، وليس كاستراتيجية نقدية تتوخّى ربط الحاضر بالماضي. وإن سلطة النقد الغربي على النقد العربي، تبدو واضحة للعيان منذ مرحلة النهضة المُراوحة في المكان والزمان الى الآن. ويمكن اعتبار مرحلة السبعينيات من القرن الفارط، سواء على الصعيد المغربي أو العربي، محطة نقدية حسّاسة في مسار النقد العربي الحديث، أقلع فيها صوْب آفاق الحداثة النقدية الجديدة، بمختلف أطيافها واتجاهاتها، سواء على مستوى النظريات النقدية والأدبية، أو على مستوى المناهج النقدية والمنظومات المفاهيمية والاصطلاحية. هي مرحلة المثاقفة النقدية، ومن طرف واحد. ولم تخلُ هذه المثاقفة من فوائد ونتائج معرفية لا يمكن نُكرانها. لكنها في المقابل، لم تخلُ من مزالق وسلبيات لا يمكن نُكرانها أيضا. وكنتُ قد رصدتُ وأحصيتُ في كتابي "ظواهر نصّية"، جملة من آفات وسلبيات الارْتهان الّلامشروط لمُنجز النقد الغربي. وأزعم أن كثيرا من هذه الآفات والسلبيات، ما يزال مستمرا إلى الآن .. منها على سبيل المثال (المنهاجوية) من حيث هي ارتهان غير مشروط للمنهج يؤدّي إلى ما يشبه وثَنية أو فِتيشية المنهج، فيُستعاض عن المبدأ النقدي المعروف (النص ولا شيء سوى النص) بمبدأ ناسخ ومُضاد (المنهج ولا شيء سوى المنهج). الآفة الثانية، هي الانتقال والارْتحال السريع بين المناهج والنماذج، في ما بين العشي والضحى. الآفة الثالثة، هي غياب النقد عن النقد، وهيْمنة النزعة الوصفية التحليلية على النزعة التّقييمية التأويلية، بدافع من علْمنة الخطاب النقدي وإبراء ذمّته من أية نوازع معيارية ونوايا إيديولوجية، هذا إلى آفة أو مأزق أو إشكال المصطلح النقدي الملتبس والمتطاوح بين قبائل النقد العربي الحديث. تلك بعض آفات ومزالق الخطاب النقدي المغربي – والعربي بعامة، الناجمة عن صدمة الحداثة وما بعد الحداثة (في رواية) وقدر المُثاقفة الّلامتكافئة في انتظار ولادة نقدية عربية تؤسّس لوعي عربي مستنير بالنصوص العربية. ويبدو أن هذه النظرية العربية المنشودة والمفقودة، ما تزال حلُما في الكَرى. وأسأله: نشهد حركة أدبية دؤوبة ونشاطا ملحوظا في الساحة الثقافية، إلّا اننا نلاحظ في المقابل سنة بعد أخرى، تدنّي الوضع الاعتباري للكاتب وتهميشه إعلاميا وحُكوميا .. هل للكاتب والمثقف عموما دور في هذا؟ فيجيب: لا كرامة لكاتب في قومه. وفي المغرب بخاصة، حيث الأمية الثقافية ضاربة أطنابها من القاع إلى القمّة، تبدو وضعية الكاتب مَدْعاة للرثاء والأسى. ذلك أن المجتمع المدني من جهة، يتجاهله ولا يعير له الْتفاتا. والمجتمع معذور في ذلك لأنه غارق في مشاكله وفي بُحران الأمية. والدولة من جهة، تتجاهله أيضا ولا تُعير له التفاتا، في دوّامة جَشَعها السياسي ومصالحها البيروقراطية، رغم وجود وزارة مُقزّمة ومهمّشة للثقافة، ورغم التظاهرات والمبادرات الفولكلورية التي تقوم بين الفينة والأخرى بذرّ الرماد في العيون. وأضاف: حتى الاتّحادات والجمعيات النابعة من الكتّاب أنفسهم، لم تفلح في رأب الصدع وردّ الاعتبار المعنوي والمادي للكاتب وللثقافة بوجه خاص – وعام. إن في الأفق هرْولة نحو المجهول. ومن ثمّ يبدو لي، أن قدَر الكاتب المغربي، وإلى إشعار آخر، هو قدَر سيزيفي – عِصامي. إن قدر الكاتب المغربي، أن يحمل على كاهله صخرة الثقافة، وصخرة الكتابة، صُعودا وهبوطا، لا ينتظر من وراء ذلك جزاء أو شُكورا .
مشاركة :