منذ سنوات قليلة، أصبح «الراديو» التقليدي كأنه قادم من العصر الجليدي. إذ لم يستطع التكيّف لأسباب عدة، مع التطور التكنولوجي الذي ضرب العالم، خصوصاً في السنوات العشر الأخيرة. وساهم دخول التلفزيون وتطوره في زيادة الضغط على هذه الآلات التي لا يزال لأجدادنا ذكريات كبيرة معها، في حين أن هناك بعض الأشخاص في عالمنا لم يضطروا بعد إلى استعمالها مطلقاً. عملياً، يُمكن الحكم على «الراديو» بأنه في طور الانقراض، أقلّه بالصيغة العادية التي نعرفها. إذ استطاع التلفزيون الحلول مكانه وإزاحته من عرش الأغراض المنزلية التي يجب توافرها في أي منزل. وهذا ما حدث فعلاً في النروج، إذ قررت السلطات إيقاف العمل بإذاعات الراديو (FM) والإبقاء على الإذاعات التي تبث عبر الانترنت، لتكون بذلك أول دولة في العالم تُعلن رسمياً «انقراض الراديو». وما واجهه الراديو في السنوات الماضية، بدأ التلفزيون بالتعرض له. إذ ارتفع منسوب الخطر على التلفزيونات التقليدية خصوصاً مع دخول التكنولوجيا إلى هذا العالم، وأصبحت هذه الأخيرة سبباً رئيساً في تغيير مفاهيم عدة مرتبطة بالتلفزيون كانت حتى فترة قريبة من الأمور البديهية. إذا أردنا اليوم تشريح استعمالات التلفزيون، سنجد أنه تقريباً فقد مهامه كلها. إذ لم يعد المصدر الأول للأخبار اليومية السياسية، بعدما استطاعت وسائل التواصل الاجتماعي و «صحافة المواطن» على سيئاتها، الحلول مكانه. أما البرامج الحوارية وعمليات التواصل بين الأشخاص والشخصيات المعروفة، فأصبحت من المهام الرئيسية التي تقوم بها وسائل التواصل المختلفة، وخصوصاً تلك التي تتعامل حصراً بالفيديو على غرار يوتيوب والتلفزيونات التي تبث على شبكة الانترنت. ومن المهام الأساسية التي يُمكن نسبها إلى التلفزيونات في شكل عام، مهمة بث الأفلام والمسلسلات والبرامج الترفيهية. وهنا جاء دور التكنولوجيا من جديد لسحب البساط من تحت أرجل التلفزيونات، إذ مع انتشار القرصنة، التي تُعد جريمة في العالم ولكنها رغم ذلك لم ولن تتوقف، والقدرة على تنزيل أحدث الأفلام والمسلسلات من دون مقابل على أجهزة الكومبيوتر، إضافة إلى القدرة التي تمنحها وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها لأي مستخدم من البث المباشر من دون أيّ كلفة إضافية، ناهيك بوجود حلول قانونية لمشاهدة الأفلام والمسلسلات على شبكة الانترنت من خلال «نيتفليكس» و «هولو» وغيرهما من الشركات المشابهة، وأصبح التلفزيون في موقع لا يحسد عليه وبات مصيره قريباً من مصير الراديو. وساهمت هذه الشركات وخصوصاً «نيتفليكس»، في تغيير مفهوم أساسي ومهم في التلفزيونات بعامة. إذ أصبح القرار الأول والأخير للمشاهد سواء في ما يبث على الشاشة أو حتى المواد التي تُبث في ما يُعرف بمفهوم «المشاهدة وفق الطلب». وحتى اليوم، لم تتمكن التلفزيونات التقليدية من المنافسة في هذا المجال، إذ لا تزال عملية التواصل بينها وبين المشاهد ضعيفة جداً إن لم تكن معدومة. فالمشاهد في التلفزيونات العادية محكوم بمشاهدة البرامج التي تقرر إدارة المحطة بثها، سواء أعجبت المستخدمين أو لم تعجبهم من دون القدرة على التأثير في قرارات المحطة، في حين أن الشركات التي تعمل على مفهوم «المشاهدة وفق الطلب» تعمل على توسيع باقات خدماتها وبرامجها يوماً بعد يوم وفق أهواء المستخدم ورغباته المباشرة. ومن الأكيد أن شبكات التلفزيون الالكترونية ستهيمن في المستقبل القريب على سوق التلفزيون التقليدي. وهذا ما يُفسر قرارات شركة «غوغل» إطلاق خدمة «يوتيوب تي في» جديدة في موقع «يوتيوب»، تعرض برامج وقنوات تلفزيونية في مقابل شهري يقدر بـ35 دولاراً أميركياً شهرياً. وسيتمكن المستخدم من مشاهدة هذه القنوات من خلال الاشتراك في الباقة، ليحصل على الأقل على 40 محطة تلفزيونية مختلفة على رأسهم «إي اس بي ان» و «فوكس» بكامل باقاتها. والحال أن إطلاق هذه الباقة الجديدة، معطوفةً عليها الشركات الموجودة أصلاً في السوق، بالتزامن مع جمود شبه تام في التلفزيون التقليدي سيؤدي بطبيعة الحال بالتلفزيون لأن يتحول إلى «راديو» القرن الواحد والعشرين. ولعل التجربة البسيطة التي حدثت معي شخصياً قد تكون مثالاً حياً عن مستقبل التلفزيون عالمياً وفي العالم العربي أيضاً. فمنذ فترة طويلة، لم ألجأ لاستعمال التلفاز، نظراً لأن مقتضيات عملي تتطلب توافراً شبه دائم على شبكة الانترنت. ومع وجود الانترنت، استطعت الاستغناء نهائياً عن التلفزيون حتى أصبح كجزء من ديكور المنزل لا أكثر. وفي أحد الأيام، اكتشفت أن التلفزيون معطل بعد أن انقطعت شبكة الانترنت في المنزل لساعات قليلة. وما زلت حتى اليوم أحاول اكتشاف الفترة التي تعطل فيها التلفزيون، إلا أن كل محاولاتي باءت بالفشل نظراً إلى أنني لم أستطع التذكر متى كانت المرة الأخيرة التي شاهدت فيها التلفزيون. ومن المؤكد، أنه لولا تعطل التلفزيون لما كنت تنبهت إلى هذا العطل، خصوصاً أني لم ألجأ إلى استبداله أو تصليحه حتى يومنا هذا. بهذه المعادلة التي أصبح من الممكن تعميمها على نطاق ضيق أقله، يُمكن الحكم على مستقبل التلفزيون. إذ لن يتمكن في المدى المنظور من مجاراة التطور، خصوصاً أنه لا تزال الكلفة المترتبة على عمليات التطوير في ظل انخفاض كلف الحلول البديلة، تساهم في تصعيب مهمته أكثر فأكثر. فاليوم يستطيع أي مستخدم لقاء أقل من عشرة دولارات شهرية أن يشترك بشبكة «ننيتفليكس» والتمتع ببرامج عدة وبعضها حصري للشركة وغير متوافر في أي مكان آخر ومنها على سبيل المثل لا الحصر وثائقي «القبعات البيضاء» من إنتاج الشركة نفسها. ولا تقتصر نقاط القوة على هذه الأمور، إذ استطاعت هذه الشركات إنشاء قاعدة ناجحة في «تجارة» التلفزيون من خلال أنظمة الاشتراكات الشهرية في وقت تعاني غالبية شبكات التلفزيون العادية من نقص في التمويل والإعلانات. ولعل المضحك المبكي أيضاً بالنسبة للتلفزيونات التقليدية، هو لجوؤها إلى وسائل التواصل الاجتماعي في الترويج لنفسها. إذ غالباً ما تلجأ الشبكات العادية إلى عرض الحلقات الكاملة من برنامج أو مسلسل ما على وسائل التواصل الاجتماعي، في رسالة «غريبة» تفيد وسائل التواصل الاجتماعي بشكل أكبر من الإفادة التي تقع على التلفزيونات عموماً. والحال أن التطور التكنولوجي الذي يصيب قطاع صناعة التلفزيونات، وتحولها إلى تلفزيونات ذكية تعمل على الانترنت سيزيد من صعوبة القنوات المحلية والتقليدية التلفزيونية. إذ ستكون خيارات المستخدم واسعة إلى درجة لن تستطيع الشبكات المحلية تلبيتها، ما يُضعف حصتها السوقية ويزيد الأعباء المالية والاجتماعية على النمط القديم من القنوات. والأكيد أن مستقبل التلفزيونات في العالم سيكون قاتماً في السنوات القليلة المقبلة. إذ ستتطور التكنولوجيا بوتيرة أسرع من قدرة القنوات على التأقلم، ما سيدفعها من دون أدنى شك إلى اللجوء إلى نمط المشاهدة وفق الطلب عوضاً عن النمط التقليدي السائد حالياً.
مشاركة :