«جسر على نهر الدرينا» لإيفو أندريتش: حكايات التاريخ الدامية

  • 4/20/2017
  • 00:00
  • 26
  • 0
  • 0
news-picture

يلعب الجسر دوراً كبيراً، بمعناه الطبيعي ولكن أيضاً بمعناه الرمزي في حياة الشعوب، وبالتالي يلعب مثل هذا الدور في الآداب والفنون. والحقيقة أن ثمة مناطق في العالم يفوق فيها الدور الذي يلعبه الجسر دوره في مناطق أخرى. وإذ نقول هذا، تحضر في أذهاننا مناطق البلقان الممتدة من حدود بلغاريا حتى ألبانيا. فهذه المناطق الممتدة في الجنوب الشرقي الأوروبي والتي شهدت من تقلبات التاريخ ما يساوي تقلباتها الجغرافية والتنوع الغريب لتضاريسها، عرفت ألوف الحكايات والمآسي والأفراح المتعلقة بالجسور، بخاصة نتيجة التنوع العرقي، التناحري غالباً، الذي عاشته على مدى أزمانها الحديثة والأقل حداثة. ومن هنا، على سبيل الإيجاز، ما نعرفه من حضور الجسر في أمهات الأعمال الفنية، والأدبية، هناك. وما روايتا إيفو أندريتش، «جسر على نهر الدرينا» وإسماعيل كاداري «الجسر ذو العقود الثلاثة» سوى خير دليل على ما نقول. فهما الأشهر بين أعمال مؤلفيهما اللذين هما بدورهما الأشهر بين كتاب «الصربو-كرواتية» بالنسبة الى الأول، والألبانية بالنسبة الى الثاني، علماً بأن هذا التنوع اللغوي والعرقي والثقافي وحتى الديني بين الكاتبين لا ينفي انتماءهما أدبياً الى حساسية واحدة. > ونتوقف هنا عند رواية أندريتش الأشهر والتي عُرفت لدى القراء العرب وفي العالم كله على نطاق واسع منذ ذكرت كأحد مبررات فوز كاتبها بجائزة نوبل للآداب في سنوات الستين. وهي على أية حال رواية بديعة مفاجئة قلبت يومها النظرة الى الأدب الأوروبي ككل. وأندريتش كتب هذه الرواية خلال الاحتلال الألماني لبلاده إبان الحرب العالمية الثانية، في الوقت نفسه الذي كتب فيه روايتيه الكبيرتين الأخريين «وقائع مدينة ترافنيك» و «مدموازيل». ومنطلق أندريتش في روايته هو أمه التي حين ترمّلت عادت لتقطن لدى أهلها في قرية فشنغرود الواقعة تحديداً على جسر رائع يقطع نهر الدرينا الذي هو فرع من نهر الساف. والجسر الذي يعتبره السكان مفخرة وجودهم يشكل محور حياتهم كباراً وصغاراً. وهذا ما لفت الكاتب بالطبع فراح يتتبع تاريخ الجسر في المدونات التاريخية وفي حكايات العجائز وفي الفولكلور الشعبي، ليضع هذه الرواية التي تنطلق من طفل صغير انتزعه العثمانيون المحتلون من أهله وبيئته ليرسلوه الى الآستانة حيث رُبّي تربية عسكرية خالصة وانضم الى حرس السلطان ضمن إطار ما كان يسمّى بـ «جزية الدم». وهو هناك كان مساره مدهشاً لذكائه وقوة شكيمته، ما أهّله لاحقاً ليصبح الوزير الأول باسم محمد-باشا سوكولوفتش. وهو إذ صار على مثل ذلك النفوذ أصدر أوامره ببناء الجسر فوق النهر الذي شهد ملاعب طفولته وأحلامه الأولى. ولكن الوكيل الذي تولى التنفيذ كان شخصاً في منتهى البطش والقسوة فرض على السكان كل أنواع السخرة والعذاب، بما في ذلك إقدامه على إعدام من اعتبرهم مخربين حتى ضجّ الناس به وكان أن استبدله الوزير في وقت أُنجز فيه الجسر فيما لم يكن أحد ليصدق ان ذلك ممكن. > والحال ان أندريتش يبدع أكثر ما يبدع في هذا النص حين يصف الصعوبات التي رافقت البناء حتى اليوم الذي صار فيه الجسر مركز حياة المنطقة كلها، لكنه في مروره عبر تاريخ الجسر والمنطقة توقف عند الأديان المتنوعة التي تعايشت أو تناحرت فيها، وعند الأوبئة والكوارث والحروب التي تقاطعت مع أعمال البناء ومجرى التاريخ. ولكن كل ذلك وصفه الكاتب متقاطعاً مع الحكايات الصغيرة، العائلية والقروية، ومع بناء السكة الحديد، ومع معارك الحروب الصربية- النمسوية التي قصف الجسر خلالها فأعيد بناؤه.... ولكن أيضاً مع تفاصيل ظريفة لا تخلو من مرح، كحكايات علي خوجا، التركي التقليدي البسيط الذي لم يكن يتوقف عن محاربة الحداثة والتنديد بها. > لو سألت اليوم أي قارئ نبيه للآداب العالمية عن الكاتب الذي يعتبره الممثل الأفضل للأدب البلقاني، لجاءك الجواب من دون أي تردد: اسماعيل كاداري. فالحال ان كاداري الألباني اكتسب من الشهرة خلال ثلث القرن الأخير، ما جعل اسمه يكاد ينفرد بساحة ذلك الأدب الساحر والغريب، ومع هذا، اذا شئنا ان نكون اكثر إنصافاً وأمانة للحقيقة الأدبية والتاريخية، سيكون علينا ان نرى في اسماعيل كاداري، امتداداً لأندريتش، لكن هذا موضوع آخر، فما يهمنا هنا إنما هو التذكير بذاك الذي كان واحداً من كبار كتاب القرن العشرين. ولعل أبرز الأمور التي يمكن التوقف عندها هنا، مقدار ما في أدب أندريتش من غنى وتنوع، وكذلك من نظر ثاقب. وحسبنا اليوم ان نقرأ روايته «وقائع مدينة ترافنك» ونتابع فيها المجابهة بين قنصلي فرنسا والنمسا، المعتمدين في مدينة ترافنك الضائعة في ريفها «الشرقي» البعيد، والصراعات والحزازات القائمة بين طوائفها الثلاث (وكأننا نتكلم عن عالم ايامنا هذه... أليس كذلك؟)، حسبنا ان نقرأ هذه الرواية لنكتشف كم ان إيفو أندريتش أدرك باكراً ما الذي ستكون عليه حال بلده المطحونة، حين تأتي عناصر خارجية لتزعزع التوازن الهش القائم فيها. والملفت هنا ان صاحب نوبل الأدبية للعام 1961، كتب أهم أعماله في اللحظات الحاسمة في تاريخ بلاده، هو الذي وجد في الكتابة مخرجاً من مأزقه الشخصي والوطني، حين احتل النازيون بلغراد في العام 1942، فارتعب هو الذي كان سبق له ان شغل منصب سفير يوغوسلافيا في برلين، وأحس بأن الوقت قد حان للتعبير كتابةً عن حوادث تتحكم فيها الصدمة الحضارية بين غرب متحرك (حتى ولو كان تحركه نحو الأسوأ) وشرق ثابت جامد. > ولد إيفو أندريتش بالقرب من مدينة ترافنك في البوسنة العام 892، ودرس التاريخ والأدب، قبل ان ينخرط في شبابه في جماعة «البوسنة الفتاة» ويناضل ضد النمسويين ما أدى الى رميه في السجن واضطهاده قبل نفيه. وهو لئن كان قد عبر عن تلك التجربة في كتابين أولين «اكس بونتو» (1918) و «قلق» (1920)، فان التجربة نفسها كشفت له هشاشة الوضع الإنساني، فكانت تلك الهشاشة واحداً من مواضيع رواياته الأثيرة. وهو بعد ذلك وبالتوازي مع عمله الكتابة، خاض العمل الديبلوماسي وعاش بين 1921 و1941 متنقلاً بين العديد من العواصم الاوروبية متأملاً، متسائلاً عن أسباب التخلف الشرقي الذي ما برح يهجس به انطلاقاً من ذكريات وطنه الأم. وبعد ذلك اذ فاجأته الحرب العالمية الثانية وهو سفير لبلاده في برلين، عاد الى بلده المحتل من قبل النازيين، ليكتشف ان نشر أعماله ممنوع، فأخلد إلى ذلك الصمت الذي أتاح له ان يكتب رواياته الكبيرة: «وقائع مدينة ترافنك» وطبعاً، «جسر على نهر الدرينا» (1946) - وهما معاً تشكلان نظرة عميقة يلقيها الكاتب على مصير يوغوسلافيا وأوروبا - و «مدموازيل». وكانت هذه الروايات سبب شهرة هائلة نالها إيفو أندريتش، وألفة بدأ قراء عديدون في العالم يعيشونها مع تاريخ تلك المنطقة من العالم، وهي الشهرة التي توجت في العام 1961 بحصول أندريتش على جائزة نوبل للآداب. > بالتوازي مع عمله الكتابي، خاض أندريتش السياسة، فكان عضواً في المجلس الوطني في جمهورية البوسنة - الهرسك وفي المجلس الاتحادي لجمهورية يوغوسلافيا، إضافة الى عضويته لمجالس تحرير العديد من المجلات الأدبية، وعضويته في الأكاديمية اليوغوسلافية. وفي يوغوسلافيا نفسها، كان أندريتش الكاتب الأكثر شعبية، وذلك بفضل، نشر وإعادة نشر العديد من الكتب التي وضعها والتي لئن كانت الروايتان اللتان ذكرناهما، اشهرها، فإن القراء أقبلوا بشغف على روايات عديدة اخرى مثل «فيل الوزير» (1948) و «جسر نهر جيبا» (1931) و «حكاية القن سيمان» (1948) إضافة الى «حكايات» التي صاغها على غرار ألف ليلة وليلة. وفي كل تلك الأعمال كان الموضوع الأساسي الذي يشغل بال إيفو أندريتش، موضوع العلاقة بين الشرق والغرب، وهي علاقة رمز اليها دائماً بالجسر، ذلك الجسر الرمزي الذي يشغل مكانة أساسية في رواياته ولا سيما في تلك التي نحن في صددها، وكذلك في الصدمة الناجمة، اما عن وجود قناصل غربيين في ترافنك، أو في تصوير لحظة انتقال حكم البوسنة من الأتراك العثمانيين الى النمسويين. بقي ان نذكر ان إيفو أندريتش نشر الكثير من الكتب الأخرى، بعضها في النقد الأدبي، وبعضها على شكل تأملات في قضايا الإبداع الفني، كما انه كتب في سنوات الخمسين عدداً من الروايات ذات المواضيع الحديثة على خطى «مدموازيل».

مشاركة :