ليست الصدفة وحدها، بل الثقة التي يضعها أبناؤك فيك، من يخرجك من هذا المأزق المتكرر، فاحرص على أن تكون ثقة أطفالك فيك بلا حد ولا تقبل المجادلة أو الشك.العرب لمياء المقدم [نُشر في 2017/04/20، العدد: 10608، ص(21)] فجأة يدخل الطفلان إلى غرفتي كعاصفة وهما يتجادلان ويصيحان. أتوقف عما بيدي وأسأل عن السبب، فيطلبان أن أحكم بينهما في شأن ما “من يحصل على حبة الكعك الأخيرة مثلا؟” أو “من يحق له استعمال جهاز التحكم بالتلفزيون؟” أو “من جاء دوره ليلعب بالبلاي ستايشن؟” وغير ذلك من التفاصيل التي تشكل نقطة خلاف يومي بين الأطفال. في تلك اللحظة تجول بخاطري أفكار عدة: أن تحكم بين طفلك وطفلك، أليست هذه مهمة تراجيدية تقريبا؟ هل بإمكانك حقا أن تفعل ذلك؛ أن تحكم بين نفسك ونفسك، أو بين نصفك ونصفك؟ هل تستطيع أن تكون عادلا كما يتوقعان منك؟ ما هو العدل في نهاية الأمر؟ هل العدل هو تغليب الضعيف مثلا؟ التحيز للأصغر والأهش؟ أم في الحكم بينهما كأنك لا تعرفهما؟ وكيف لا تعرفهما وهما ينظران إليك بعينين من سكر عجنته بيديك، وقلباهما يخفقان كعصفورين؟ كيف وهما يلاحقانك بأنفاسهما المتصاعدة وبأيديهما الراجفة كأنك ستحكم في قضية حياة أو موت؟ أظل صامتة لوهلة، ويظلان يترقبان، أستمع للقصة من فم أحدهما (هذه في حد ذاتها مشكلة حقيقية؛ بمن تبدأ؟)، أمنحه دقيقة مثلا، ثم أستمع للقصة من فم الثاني، أفكر في الأثناء أن أتعلل بشيء وأنسحب، أو أقول ببساطة ووضوح “لماذا لا تعفيان أمكما المسكينة من هذه المهمة المعقدة؟” لكني أتراجع، فهما لا يدركان بالتأكيد حجم المهمة، وكل ما يريدانه العودة سريعا أمام جهاز التلفزيون أو الكمبيوتر أو إلى المطبخ. بإمكان حبة كعك صغيرة أو جهاز تحكم بسيط أن يضعك أمام نفسك لحظة، بإمكان أي منهما أن يجعلك تدور في حلقة مفرغة، أو أن تغوص في أعماق قلبك حتى آخر حموضته، بإمكانه أن يستدعي طفولتك أمام عينيك فتتذكر المرة التي بكيت فيها ورفست وصرخت لأن أمك أخذت أختك معها إلى حفل في العائلة ولم تأخذك، أو المرة التي عوقبت فيها ولم يعاقب أخوك لأنكما سرقتما شيئا من خزانة أمكما. بإمكان حبة الكعك تلك التي يتنازعان لأجلها أن تشعرك بالمرارة القصوى، وتسد حلقك للحظة، قبل أن تتدارك أمرك وتتذكر أنك الحكم في قضية أنت طرف فيها شئت أم أبيت، وأنك مطالب بالعدل، المهمة الأصعب في حياة البشر، لأن ما نحس به اليوم صغيرا يكبر ويتضخم مع الأيام، وعليك قبل كل شيء أن تتذكر أن حبة الكعك الصغيرة اليوم بإمكانها أن تتحول إلى جبل غدا يفرق بين الإخوة، أو إلى ذئب يلوث قميص أحدهما بدم كاذب، وأن تعميك، كأم أو أب، وتبكيك وتقتلك بالحسرة. أعرف، تماما كما نعرف جميعا، أن العدل مسألة معقدة وأنه نسبي، وأعرف أن الظلم شيء قاس جدا رغم واقعيته، وضرورته أحيانا، لكن كيف تقنع طفلا بهذه المفاهيم الكبيرة، وكل ما يريده منك أن تنهي خلافا بسيطا ليعود إلى سالف نشاطه؟ كيف تقول له “العدل من وجهة نظري أن يحصل أخوك الأصغر على الكعكة” (لأنك ببساطة شديدة لا تريد أن يزيد وزنه، هو الذي يميل إلى السمنة) أو تقول للصغير “دع أخاك يتابع برنامج التلفزيون واجلس للمذاكرة” (لأن الطفل الأكبر متفوق ولا يحتاج إلى بذل مجهود مضاعف). أقترح في الغالب حلا محايدا كأن نحتكم جميعنا إلى الصدفة. ربة الأرباب، فلا يوجد ما هو أعدل وأكثر إنصافا وحكمة منها. لا أعرف من ابتكر هذا الحل، لكنني أشكره في اليوم ألف مرة: أختار رقما في خيالي من 1 إلى 10 ويحاول الطفلان أن يحزرا الرقم، من ينطق به أولا يحصل على الشيء المتنازع عنه قبل الآخر. ليست الصدفة وحدها، بل الثقة التي يضعها أبناؤك فيك، من يخرجك من هذا المأزق المتكرر، فاحرص على أن تكون ثقة أطفالك فيك بلا حد ولا تقبل المجادلة أو الشك. كاتبة من تونس مقيمة بهولندالمياء المقدم
مشاركة :