القاهرة: عيد عبد الحليم يعد المفكر الراحل عبد الرحمن بدوي، أحد أعلام الفكر الفلسفي العربي خلال القرن الماضي، بما قدمه من جهود فلسفية أضاءت المشهد الثقافي برؤى مغايرة انحازت إلى التجديد في بنية العقل العربي، عبر مجموعة من المؤلفات والدراسات التي ناقشت التحولات العميقة في الفلسفة الإنسانية، وتأثيرها على العقل الإنساني في العصر الحديث، ومنها «ربيع الفكر اليوناني» و«الموت في الفلسفة الوجودية» و«رابعة العدوية.. شهيدة العشق الإلهي»، و«تاريخ التصوف الإسلامي» وغيرها من المؤلفات المهمة.كان الراحل مغرمًا بالتصوف الإسلامي الذي كان يراه أحد المصادر التي يصدر عنها المذهب الوجودي العربي، وقد حاول «بدوي» تأسيس فلسفة وجودية عربية، بالرغم من كثير من الانتقادات التي تعرض لها، إلا أنه حاول التقريب بين الفلسفة الوجودية والتصوف الإسلامي.وقد تميزت كتابات «بدوي» بتفرد شخصيته التي تبرز جلية في كل ما كتبه، ليس فقط في سيرته الذاتية المعنوية «سيرة حياتي»، لكن حتى في أشد كتبه التنظيرية، حيث يظهر بوضوح «المشروع الفكري» الذي عمل على ترسيخه منذ كتابه الأول عن «رابعة العدوية»، فقد ارتبط بمكانه وزمانه، فهو ابن للثورة الفكرية المصرية والعربية والحركة الوطنية أيضا.قدم بدوي مؤلفات مبتكرة أكد فيها مذهبه الفلسفي، منها «مشكلة الموت في الفلسفة الوجودية» وهي رسالة للماجستير التي ناقشها عام 1941، ورسالته للدكتوراه عام 1944، التي ناقشه فيها د. طه حسين وباول كراس والشيخ مصطفى عبد الرازق.وكان «بدوي» مهتمًا بنقل التراث الفلسفي اليوناني، مع تحليله ورصد أبعاده من خلال تحقيقه المثمر والبناء الذي يبرز جوانب هذا الفكر، مع تقديمه عبر رؤية معاصرة.وعلى حد تعبير د. أحمد عبد الحليم عطية في كتابه «الصوت والصدى.. رؤية جديدة في مشروع بدوي الفلسفي»، يمكن لنا إذا ما أردنا تفسيرا دقيقا لجوانب هذه الشخصية الخصبة العميقة المتناقضة، أن نتوقف عند الأسس الفلسفية التي اعتنقها بدوي، وهي النزعة الوجودية التي قدم فيها إبداعاته، فتوجهه الوجودي نابع من اهتمامه الكبير بفلسفة نيتشه وهيدجر، ولعل اهتمامات بدوي السياسية، التي ظهرت في مقالاته في «مصر الفتاة» عام 1935 هي التي أملت عليه الاهتمام بفلسفة نيتشه، حيث كان من أول مؤلفاته كتاب عن «نيتشه»، استجابة للثورة السياسية التي كان يموج بها الواقع المصري في ذلك الوقت.وفي هذا الاتجاه يؤكد بدوي هذا التوجه في سيرته الذاتية «سيرة حياتي» قائلاً: «لقد وضعت هذا الكتاب داخل سلسلة سميتها خلاصة الفكر الأوروبي، والدافع إلى ذلك هو إحداث ثورة روحية في الفكر العربي، إذ وجدت أن السبيل إلى ذلك هو الاطلاع على الفكر الأوروبي الذي استطاع أن يحقق تقدما عظيما في الفكر الإنساني».وكان بدوي صاحب مدرستين في الكتابة الفلسفية، الأولى يؤصل فيها لوجهات نظره في الفلسفة، وابتكار صيغ فلسفية تتوافق مع العصر الحديث، مع البحث في الجذور الفلسفية العربية والأوروبية.والثانية هي التأريخ للحراك الفلسفي على مدار التاريخ، خاصة الفلسفة الأوروبية وما مرت به من مراحل عاصفة.وهو في المدرستين كان يهدف إلى التأمل والتفكير، حيث يقول: «هذه الكتابات من أجل إيجاد نظرتنا الجديدة وليس متابعة الفكر الأوروبي، لسنا نريد منهم - أبناء هذا الجيل- أن يؤمنوا بمذاهب هذا الفكر ويسيروا في الاتجاه الذي فيه سار، دون افتراق عنه أو محاولة لإنكاره ومخالفته، فليس يعنينا من أمر هذا الإيمان شيء، وإنما الذي يعنينا حقا، وهو الذي من أجله أخذنا أنفسنا بمهمة العرض والتحليل لهذا الفكر، أن نحملهم على أن يفكروا فيما فكر فيه العقل الأوروبي ويتأملوا في المشاكل التي أثيرت والحلول التي قدمت».وحول رحلته المضنية مع التراث الأوروبي يقول «بدوي»: «الآن وقد أمكننا تحقيق ما وصل إلينا من التراث الفلسفي اليوناني، وأتممنا نشره بين الناس فإنه يحق لنا أن ننظر نظرة إلى الوراء وأخرى إلى الأمام، نتأمل في الأولى عناصر هذا التراث، وكيف عرفه العرب، وفي الثانية نستخلص النتائج عن ماضي الثقافة العربية ومستقبلها على السواء».صادف يوم 4 فبراير/شباط الماضي ذكرى مرور مئة عام على ميلاد عبد الرحمن بدوي الذي حصل على الشهادة الابتدائية من مدرسة «فارسكور» في محافظة دمياط بترتيب الأول، ثم حصل على شهادة الكفاءة عام 1932 والتحق بقسم الفلسفة بكلية الآداب، جامعة القاهرة عام 1937، ثم سافر في بعثة دراسية إلى ألمانيا ثم إيطاليا، أتقن خلالها اللغتين.بتوجيه من عميد الأدب العربي د. طه حسين، وخلال هذه الفترة، أعاد «بدوي» قراءة مؤلفات الفيلسوف الألماني الشهير «مارتين هيدجر»، وقدم من خلال هذه القراءات رؤية تحليلية لأبعادها.تنقل بدوي للتدريس في عدة جامعات عربية منها الجامعة اللبنانية في نهاية الأربعينيات من القرن الماضي، وجامعة بنغازي في ليبيا عام 1967، وجامعة طهران عام 1973 وقد توفي «بدوي» في 25 يوليو/تموز 2002.
مشاركة :