الموت يغيب آخر تلامذة مدرسة عبدالرحمن بدوي الفلسفية

  • 6/20/2019
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

توفي فجر الثلاثاء المفكر المصري إمام عبدالفتاح إمام أستاذ الفلسفة والعلوم الإنسانية بجامعة عين شمس، والذي أمضى حياته في ترجمة ودراسة فلسفة الفيلسوف الألماني الشهير جورج فيلهلم فريدريس هيغل (1770ــ1831). وأنهى حادث سيارة الاثنين بمنطقة 6 أكتوبر في جنوب غرب القاهرة حياة الأكاديمي عزت قرني رئيس لجنة الفلسفة في المجلس الأعلى للثقافة ورئيس تحرير مجلة الفكر المعاصر. ويعتبر الراحلان من أهم تلامذة عبدالرحمن بدوي، وتميزا بالتأثير القوي في الفكر العربي المعاصر، واشتركا معا في الانزواء والبعد عن المناصب الرسمية وعدم الانخراط في أي من التيارات السياسية ما جعل رحيلهما غير محسوس لدى قطاع كبير من المصريين. يبدو رحيل المفكرين البارزين، على مستوى الجماعة الثقافية، خسارة كبيرة للفكر العربي المعاصر، والمجتمع الأكاديمي المصري بشكل خاص، فقد مدا المدرسة الفلسفية بكثير من الدراسات والترجمات التي كشفت عن أبعاد مهمة للمهتمين العرب بالشؤون الفلسفية، وترك كلاهما إرثا كبيرا سيخلدهما في عالم الفكر، لأن إنتاجهما كان نوعيا بامتياز وتطرق إلى مجالات فلسفية عدة تؤكد عمق الرؤية ورصانة التحليل. إمام عبدالفتاح إمام يمثل علامة بارزة في الفكر الفلسفي العربي، وقام بترجمة العديد من الكتب في تاريخ الفلسفة الغربية وقال الباحث حسن حماد أستاذ علم الجمال والفلسفة بجامعة الزقازيق، شمال القاهرة، إن رحيل إمام عبدالفتاح خسارة كبيرة للفكر العربي المعاصر، فهو المفكر الأكثر تخصصا في الفلسفة “الهيغلية” من خلال ترجمة كافة أعمال هيغل الفلسفية وتبسيطها للدارسين العرب، وهو صاحب أول رسالة دكتوراه عربية عن منهجه الفلسفي. وأشار لـ“العرب” إلى أن إمام كان عازفا عن الأضواء ومنغمسا في العلم والفكر فقط، ومنكبا على الكتابة والترجمة والتدريس، ورحل منزويا دون أن يتم الاحتفاء به كما يستحق، لافتا إلى أن “الكثير من المفكرين الأفذاذ رحلوا في صمت، لكن التاريخ أنصفهم بعد سنوات”. وأكد أنه رغم عدم حصوله على جوائز رسمية نوعية من الدولة، إلا أنه كان يحوز تقدير واحترام كافة المفكرين والمثقفين داخل مصر وخارجها. بين إمام وهيغلولد إمام عبدالفتاح إمام بمحافظة الشرقية، شمال القاهرة، سنة 1933 وتخرج في كلية الآداب بجامعة القاهرة عام 1957 وتفرغ لدراسة كتابات ومؤلفات الفيلسوف الألماني هيغل، وحصل على الماجستير عن المنهج الجدلي عنده، ثم حصل على الدكتوراه من جامعة عين شمس بالقاهرة سنة 1972 عن “تطور الجدل بعد هيغل”. وأوضح الأكاديمي المصري أحمد سالم أستاذ الفلسفة بكلية الآداب جامعة طنطا، شمال القاهرة، لـ“العرب” أن إمام عبدالفتاح يمثل علامة بارزة في الفكر الفلسفي العربي وقام بترجمة العديد من الكتب في تاريخ الفلسفة الغربية، وسوف يبقى تأثيره في طلاب الفلسفة في العالم العربي إلى الأبد باعتباره أحد الرواد العظام. وأضاف “لقد رحل ليترك لنا مقعدا شاغرا لعل الأيام تحمل لنا جيلا جديدا يبرز منه من يمكن أن يسد فراغ هذا الراحل العظيم”. وأوضح الباحث أشرف منصور أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية الآداب جامعة الإسكندرية، أن الرجل أستاذ لعدة أجيال في مجال الفلسفة، وأفضل ما كان يميزه القدرة على تبسيط الفلسفة لتصبح في متناول مختلف القراء، مستفيدا بشكل مباشر من التتلمذ على يد اثنين من أهم المفكرين العرب، وهما عبدالرحمن بدوي وزكي نجيب محمود. أصدر الراحل موسوعة قبل سنوات هي موسوعة “المصطلح الفلسفي” التي اعتبرت من أهم أدلة الدخول إلى عالم الفلسفة. كما أن كتابات إمام غير الفلسفية قوية ومن أبرزها “الأخلاق والسياسة” و“معجم ديانات وأساطير العالم”، فضلا عن كتابه الشهير “الطاغية” الذي طبع عدة طبعات وتداوله الشباب في الكثير من الأقطار العربية كدليل استرشادي لقراءة سمات الحاكم الدكتاتور. وأكد الكاتب المصري صالح إبراهيم لـ”العرب” أن هذا الكتاب يعتبر أيقونة الفهم السياسي لأنظمة الحكم المستبدة لعدة أجيال في مصر والعالم العربي، وصاحبه أحد أوائل من حذروا من تسييس الدين عبر مقولاته الفلسفية التي ترى أن الحكم لا يستقيم أبدا طالما اختلط بفكرة الدولة الدينية. وكان إمام من أهم رواد المدرسة العقلية، إذ يقول “لا سبيل للتقدم العلمي أو الاجتماعي أو الإنساني في الوطن العربي سوى بتربية أجيال قادرة على التفكير النقدي ومتمكنة من أدوات العقل”.مسيرة قرني أما عزت قرني، فقد ولد في محافظة الجيزة، جنوب القاهرة، في 15 يناير 1940، وتخرج في كلية الآداب جامعة القاهرة عام 1960، ثم حصل على الدكتوراه من جامعة السوربون في باريس عام 1972 عن أطروحة بعنوان “الدوكسا في نظرية المعرفة الأفلاطونية”، ويعتبر أحد أهم المتخصصين في الفلسفة اليونانية. وتنسب للرجل ترجمة ونقل محاورات أفلاطون إلى اللغة العربية ووضع تعريفات جديدة لكثير من نصوص الفلسفة اليونانية، علاوة على محاورات أقريطون وبروتاغروس ومينون وكثير من الكتابات والدراسات الخاصة بأرسطو. ونشرت الهيئة المصرية العامة للكتاب عدة مؤلفات للدكتور عزت قرني ومن أبرزها “أصول الفن” و“الإنسان التكوين الأساسي والظواهر الكبرى” و“ما الفلسفة” الصادر في سلسلة ما، ومجموعة إنشاء الفلسفة المصرية “أصول الأخلاق” و“نظرية الشر”، وهناك كتابان تحت الطبع بعنوان “الجميل والجمال” و“غايات الإنسان”. وحصل قرني على جائزة الدولة التشجيعية في الفلسفة عام 1975، وعلى وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى بعد عام واحد، وهو عضو في الجمعية الفلسفية المصرية والجمعية التاريخية وجمعية محبي الفنون الجميلة بالقاهرة. وعمل لفترة في جامعة الكويت. وقال حسن حماد لـ”العرب” إن عمل المفكر الراحل عزت قرني لفترة في الكويت أدى إلى ابتعاده كثيرا عن الحياة السياسية والثقافية في مصر، غير أنه يعد حاضرا بقوة في الفكر العربي المعاصر بكتاباته وآرائه وأطروحاته الفلسفية الرائدة. عزت قرني تنسب له ترجمة ونقل محاورات أفلاطون إلى اللغة العربية ووضع تعريفات جديدة لكثير من نصوص الفلسفة اليونانية وحكى الراحل من قبل في حوارات أن عشقه للفلسفة بدأ بالصدفة قبيل التحاقه بكلية الآداب عندما تصفح بعض كتب علم النفس والفلسفة في مكتبة أحد الأصدقاء فقرر دراسة الفلسفة بدلا من التحاقه بكلية الحقوق، قائلا “الفلسفة تجذب كل صاحب فكر وعقل من خلال طرح الأسئلة ومحاولة تقديم إجابات عديدة”. وكانت للراحل كتابات وآراء عديدة في بحث وتحليل ظاهرة الشر، والصدام بين الحضارات وفكرة العداء بين الأمم. وأشار أحمد سالم لـ“العرب” إلى أن قرني قدم إسهامات عديدة ومتنوعة في الفن والأخلاق وقضايا الحرية، وشارك بصورة عظيمة في تسهيل وتبسيط طروحات عميقة وقدمها للأجيال الجديدة بشكل جذاب وجيد. ورأى طريف شوقي أستاذ علم النفس الاجتماعي، أنه فيلسوف ومفكر كبير وله دراسات عديدة في مواجهة التطرف والتشدد في المجتمع، وصاحب منهج أصيل في قراءة الظواهر من مختلف الزوايا ويهتم بعملية التحليل التفصيلي لكل أمر. من جيل لآخرأوضح الناقد الأدبي علي حامد لـ”العرب” أن ما يعرف بجيل الرواد العظام في مجال الفلسفة قارب على الاندثار، في ظل رحيل مجموعة كبيرة من المفكرين من مدرسة عبدالرحمن بدوي وزكي نجيب محمود في مصر، وانزواء أو اعتزال آخرين مثل الدكتور حسن حنفي بسبب المرض، فضلا عن أن المناخ العام لم يعد قابلا لطرح الأفكار الفلسفية مع اتساع المد السلفي والنظرة الازدرائية من بعض النخب للفلسفة، مع أن هذا التغول من الواجب أن يكون سببا لانتعاش الفلسفة. وغيب الموت في أبريل الماضي في صمت شديد المفكر صلاح قنصوة أستاذ الفلسفة وعلم الجمال، الذي كانت له مؤلفات رائدة مثل “الدين والفكر والسياسة” و”أسلمة العلم”. وقال حامد إن عدم الاهتمام الثقافي في مصر، باستثناء المهتمين بالفلسفة، بفقدان القيم الفكرية العظيمة في المجتمع يدلل على حجم التدهور الحاصل في الثقافة خلال السنوات الأخيرة، وتجاهل المؤسسات الرسمية لكثير من القيم العظيمة والرائدة، لكن إسهامات الرجلين سوف تبقى نافعة، بينما تظل أعمال الساسة محل تقييم دائم لدى محللي التاريخ. مرحلة حرجة يرى البعض من خبراء الفلسفة أن العالم العربي يمر بمرحلة تحولات كبرى في الفكر والفلسفة تستدعي ظهور مفكرين وفلاسفة جدد يقدمون أطروحات جديدة في التعاطي مع مشكلات غير نمطية، فعدد كبير من الفلاسفة تسرب خلال الفترة الماضية، ويظل الأمل معقودا على الجيل الصاعد. ويؤكد هؤلاء أن هناك حاجة ماسة لاهتمام أكبر بالفلاسفة والمفكرين ورعايتهم لتحقيق تغير حقيقي في تصورات وعقول الأجيال القادمة مع انتشار موجات عاتية من الكراهية والتطرف.ولفت مصطفى عبدالرازق مدير مركز دراسات الإسلام والغرب لـ”العرب” إلى أن رحيل المفكرين إمام عبدالفتاح وعزت قرني ليس خسارة كبيرة للفكر والفلسفة فقط، لكنه يضع على عاتق الجيل التالي لهما مسؤولية كبيرة، للمضي قدما على خطوات العظيمين. وشدد على أن رحيل العمالقة لا يعني أفول الفلسفة المعاصرة، ومخاصمة الأجيال الجديدة لها، كما يتصور البعض، فهناك أشخاص كثر مهمومون بالإنسان العربي، ويفكرون ويدرسون ويسعون دوما إلى طرح رؤى جديدة وغير تقليدية تناسب قضايا خطيرة بدت غريبة على العالم العربي. ورأى عبدالرازق أن هناك دراسات حديثة معاصرة تؤكد أن معين الفكر العربي لا ينضب وكل يوم يحمل رؤى جديدة وأجيالا أخرى، لأن كل جيل يمضي يتبعه آخر يحمل قدرا أكبر من الخبرة والثقة والرغبة في تقديم حلول لمعضلات آنية خطيرة خاصة في ما يتعلق بقضايا الإسلام السياسي الفلسفية، والتي أصبحت تحتل حيزا كبيرا من اهتمامات المفكرين في الوقت الراهن. وقال مصطفى عبدالرازق لـ”العرب” إن طبيعة الأفكار هي الديناميكية، وكل جيل يستفيد من الجيل السابق عليه بحكم الخبرات المتراكمة، داعيا إلى تشجيع ومساندة ودعم أصحاب المشاريع الفكرية ودفع المجتمعات إلى الاهتمام بالثقافة والفكر باعتبارهما من الأسلحة الحيوية في مواجهة الفكر المتطرف.

مشاركة :