كان بنو حنيفة، وهم بطن من بطون بكر بن وائل، وهي إحدى قبائل ربيعة، وكان مسكنهم اليمامة، يعلمون علم يقين لا دخل فيه أن "مسيلمة بن ثمامة بن كثير بن حبيب الحنفي"، مدعي النبوة، كذاب مهرج ومع ذلك اتبعوه، ليس حباً فيه، ولكن تعصباً للقبيلة ونصرة للعشيرة، وحتى لا يقعوا وهم أبناء ربيعة تحت إمرة قبيلة أخرى من مضر وهي قريش، وقالوا مقالتهم الغيورة على حسبهم ونسبهم: "كذاب ربيعة خير عندنا من صادق مضر". والأشد عجباً أمر مسيلمة الكذاب نفسه، فهو يعلم هو الآخر من أمر نفسه أنه كذاب، وأن قومه اتبعوه ليس اتباعاً للحق وطلباً له، بل طلباً للعصبية والحمية، فهو يعلم أن قومه ليسوا بدعاً من العرب، فهم مثل غيرهم من أجل العصبية يحبون ومن أجلها يعادون؛ لأجل هذا كان مسيلمة الكذاب على يقين لا يتزحزح أن قومه لن يخذلوه، ولو كان الثمن أموالهم، أو نساءهم، أو أنفسهم. فلما جاءهم جيش المسلمين في عهد الخليفة الأول أبي بكر الصديق بقيادة خالد بن الوليد -رضي الله عنهما- سأله قومه ما وعدهم به من نصر على يد ملائكة مردفين مسومين، فقال لهم: "أما الدين فلا، قاتلوا عن أحسابكم". تقول بعض المصادر إن مَن قاتل مع مسيلمة جيش تعداده مائة ألف مقاتل، وكان يوماً شديد الهول ثبت فيه بنو حنيفة وقاتلوا عن أنفسهم وأحسابهم قتالاً شديداً، وأنهم هزموا جيش عكرمة بن أبي جهل في البداية، فأرسل أبو بكر إليهم خالد بن الوليد في جمع من كبار الصحابة والقراء، وكاد جيش مسيلمة أن يهزمهم لولا صرخة من ذوي الدين والحمية الدينية الذين ثبتوا وصرخوا في الناس: "يا أصحاب سورة البقرة، يا أهل القرآن، زينوا القرآن بالفعال". وانتهت المعركة بفوز المسلمين، وقد استشهد جمع كبير من كبار الصحابة والقراء. الشيء المؤلم أن هذا الأمر، وهو التعصب للقبيلة، أضحى كحرباء تتلون بألوانها، فانتقل التعصب للقبيلة إلى تعصب حزبي، وتعصب أيديولوجي مقيت وأشد بغضاً من التعصب القبلي، يُعمي الأبصار عن رؤية الحق ويعطل اللسان عن النطق به، فما نجح الشيطان في شيء مثلما نجح في إذكاء نار التعصب، وهو أمر شب عليه الصغير وشاب عليه الكبير، وآية ذلك تجده واضحاً جلياً بعد ما مر بالبلاد من أحداث منذ الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني إلى الآن، ولم ينج فصيل من هذا الداء اللعين أو كما قالت العرب: في كل واد بنو سعد. فإذا يممت وجهك شطر معسكر اليمين، ونقصد الإسلام السياسي ورجال الدين وأشياعهم، نجد أتباعه ينصرون قادتهم في الحق والباطل، وينتقصون من منافسيهم بالصدق والكذب، تجد الرجل منهم يعلم أن حزبه أو شيخه كذاب، وأنه استخدم مطية، ورخصة شرعية لتبرير قتل، وسحل الناس، واغتصاب الأعراض، وقيادة البلاد إلى ترد سحيق، كل ذلك ليشفي شيخه من حقد، وحسد دفين، وقد كان يترمض في داخله على نار انتظاراً لهذه اللحظة التي يجلس فيها على تلة الخراب عازفاً لحن التشفي، وتجد هذا المأفون بكل بجاحة يدافع عنه دفاعاً مستميتاً، ضارباً بالدين والمروءة عرض الحائط، وهو يعلم أن شيخه مفعول به وليس فاعلاً، وأنه قد أدمن خمر العمالة، وشيخه هو الآخر يعلم أن مريده لن يتوانى عن الدفاع عنه، والتبرير لأفعاله القذرة، بحجة الدفاع عن الدين، وأهله! فأما إذا يممت وجهك شطر اليسار، وخاصة الأحزاب الناصرية، تجد ما هو أشد فضاحة، وأنكى خذلاناً، تجد الرجل منهم يعلم أن زعيمه الملهم المشتاق للظهور على حساب كل شيء، قد استخدم محللاً "تيساً مستعاراً"، لا يختلف كثيراً عن رجل القش الذي تم اختراعه لكي يتم صرعه، وتجده بكل بجاحة يدافع عنه باعتباره رمزاً من رموز الثورة، وأيقونة من أيقوناتها! لكن من المقطوع به أن هذا العصر ليس عصر هؤلاء، فعندما تعقد صفقة مع الشيطان فاعلم أن الحياة تعد لك فخاً قميئاً، وأنك ستفضح أينما حللت وارتحلت، ويكون حالك كحال المشعوذ الذي فقد السيطرة على القوى الجهنمية التي استحضرها. وأن الكلام عن حرمة علماء الدين، وحرمة القيادات التاريخية، لا بد من فطام الناس عنه، وأنه لا حرمة لمن لا يقيم حرمة للحق ويدور معه حيث دار، وهؤلاء هم وحملة عروشهم سينتهي الزمان بهم كحذاء مقطوع لا يليق انتعاله، أو الدخول به إلى المراحيض القذرة. نسأل الله أن يشفينا من التعصب، ومن التعامي عن الحق الذي يمتلكه مخالفونا، منشغلين ومبررين للباطل الذي بأيدينا، لا نرى إلا حسناتنا، أما مخالفونا فلا نرى منهم إلا كل شر، ولا نكون كمن ضرب المولى -جل وعلا- بهم مثلاً: "أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ"، ومعناه أن قوماً جاءهم مطر فانشغلوا عما في المطر من خير وإحياء للأرض بعد موتها، بما يصاحبه من ظلمات ورعد وبرق. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :