تتسع الرؤية في رواية الكاتب والإعلامي المصري محمود الورواري «خريف البلد الكبير»... لتشمل الكثير من المشاهد المتداخلة، في اشتباك حسي لافت للنظر، وهو اشتباك لا يمكنك أن تميز فيه بين الماضي والحاضر والمستقبل، كما لا يمكنك بسهولة تحديد المسار الذي تتبعه الرواية في حبكتها... فيما يظل المزاج العام للرواية متحركا في أكثر من اتجاه، وفي أنساق عدة تتصاعد حدتها بين البطء والسرعة حسب ما تتطلبه الأجواء التي تصنعها الأحداث.والرواية - التي تتضمن 311 ورقة من القطع المتوسط والصادرة عن الدار المصرية اللبنانية - تسير في مشاهدها وأحداثها وشخوصها عبر مستويين لا ينفصلان عن بعضهما بأي حال من الأحوال، وذلك بفضل الرمز الذي أراده المؤلف أن يكون متناسقا مع فكرته التي يرغب في طرحها، أو قضيته الوطنية، التي تتناغم في عنفوانها وتطلعاتها مع المزاج الفني العام للرواية.المستوى الأول يتنامى في صيرورته مع شخصية الرواي العليم، أو بطل الرواية «رشدي الشيخ» بكل ما تحمله الأحداث من نقل مباشر لحياته المزدحمة بالهموم والأحلام والنجاحات والإخفاقات، بينما يحتل المستوى الثاني برمزيته المتوهجة ما تتضمنه أوراق المخطوطات التي سلمها له صديق دراسته القديم، تلك التي تتحدث عن تأسيس وطن، وما تعرض له من اعتداءات وخيانات ودسائس، وبالتالي جاء المستويان في الرواية في تراكم يحمل في مدلولاته أحداثا متراكمة بعضها فوق بعض، غير أنها قابلة لأن تكون منفصلة بفعل الذهن الذي يتعين عليه أن يكون متقدا وماسكا بخيط الحكاية، ومن ثم لديه القدرة على الربط فيما بينهما، للوصول إلى المعنى الذي ينشده المؤلف. لذا فقد بدت الرواية وكأنها تحمل في متنها حكايتين، الأولى تتحدث عن الحاضر والمستقبل وشخوص مثل رشدي الشيخ وابنته ملك وفاطمة «القديمة والجديدة» والدكتور البيومي وغير ذلك، فيما جاءت الحكاية الثانية من خلال ما رصدته المخطوطات من قصة هذا البلد الذي أسسه الشيخ الكبير ومن ثم جاءت الشخوص مختلفة... «راغب هادي جاسر رياض خلدون» وغير ذلك من الشخصيات التي أثّرت في سياق الأحداث.وبين الحكايتين- بأحداثهما المختلفة- تشكلت الرواية، لنجد في الفصل الواحد سردا على لسان الراوي رشدي الشيخ، ثم انتقال فوري إلى سرد آخر عبر ورقة من أوراق المخطوطات.وعلى هذا الأساس تناول الورواري أحداث روايته بالكثير من الحركة لربط أزمنة وأحداث مختلفة مع بعضها، ومن ثم الصعود إلى الأحداث من أسفل إلى أعلى... من دون أن تهرب الفكرة أو يتأثر تواترها المقصود.والتقابل الذي أضافه المؤلف إلى متن عمله الروائي- أحداث تضمنتها المخطوطات، وأخرى يحكيها الراوي على لسانه- لم تكن على سبيل التصنّع أو التكلّف بقدر ما هو تقابل استطاع المؤلف من خلاله أن يقول أكثر مما ينبغي في مسألة الوطن والمواطنة، وإبراز جوانب تبدو حساسة وحيوية تتعلق بالظلم والخيانة وعدم الإحساس بالأمان في ظل ما يتبعه البعض من ترهيب ورعب لكل من يختلف معه في الرأي أو الرؤية، وشخصية «راغب»- المبنية على الانتهازية والتكبر والتعامل مع الأمور من منطلق المصلحة- هي الأساس في هذه المسألة، بينما هناك شخصيات إيجابية تتسم بالعمل على المصلحة العامة مثل شخصية الشيخ الكبير مثلا، فيما ظهرت شخصيات تقف على الحياد وليس لها أي رأي أو تأثير على أرض الواقع... هذا في ما يتعلق بالرواية الموازية والمتعلقة بالمخطوطات، بينما متن الرواية الرئيسية المروية على لسان رشدي الشيخ تتماهى فيها الشخصيات التي أرى أنها تفسر أو تكشف السر الذي تخبئه، ولا تريد الكشف عنه لأسباب تتعلق بالرقابة مثلا، ومن ثم فقد بات من الضروري قراءة الرواية بتوازن بين الحدثين- المخطوطات والمروي- وهذه القراءة تحتاج إلى الكثير من الانتباه من أجل أن تكون منسقة، ومن ثم تصل بالذهن إلى المبتغى أو الفهم المنشود.فالبلد الكبير... ليس إلا الوطن الكبير الذي يضم على أرضه كل المواطنين بكل تطلعاتهم ونظراتهم وأحلامهم وأخلاقهم ومعتقداتهم، ومن المفترض أن يدور صراع حقيقي لا ينتهي بين مراكز الشر التي تريد السيطرة على مفاصل الوطن وتسييره وفق أهوائها، وبالتالي هذه المراكز الشريرة ستصطدم- بكل تأكيد- بالطيبين والوطنيين والحالمين بالسلام، وستدور معارك صريحة أو خفية بين الطرفين، وسيكون الانتصار موزعا بين الطرفين... عبر أحقاب زمنية مختلفة، وكلما خفتت أصوات الحرب بين الطرفين هناك من يدعوها كي ترفع من صوتها، لانها صيرورة لا يمكن أن تتوقف، هذا ما تريد أن تقوله الرواية، وما تريد الوصول إليه، ولكنها في المقابل تدعو إلى عدم الاستسلام، والدفع بقوى الخير في مواجهة قوى الشر من دون يأس أو قنوط، لأن المسألة دائمة ولن تحل بين ليلة وضحاها.واللغة التي استخدمها الورواري في روايته تتسم بالبساطة والجمل القصيرة التي تكثف الفكرة وتضعها في مرمى الفهم، كما أن المفردات المنتقاة متواصلة- بشكل مباشر- مع المضامين من أجل تأكيد الرؤية في أكثر من اتجاه... فهناك شخصيات في الرواية اتجهت بمشاعرها صوب حب الوطن والعمل في سياق مصلحته، وأخرى انشغلت بمصالحها الشخصية وصراعاتها من اجل المناصب من دون أن يكون الوطن في بؤرة حبه.هكذا تنمو الحكاية بتصاعد من خلال البطل وهو في الوقت نفسه الراوي العليم رشدي... السفير الانتهازي الذي ضحى بماضيه العريق الأصيل والذي يتحدر من القرية كما تخلص من التواصل مع أهله وزملاء دراسته، وتزوج بنت شخصية كبيرة ليصل بسهولة إلى المنصب الذي يخطط له، فيما يقتحم أحد زملائه القدامى حياته بصندوق يحوي مخطوطات قديمة ليقلب حياته رأسا على عقب ومن ثم يقوم أحد زملائه الآخرين بتحقيق او فك طلاسم هذه المخطوطات، ليكتشف أنها تتحدث عن أصوله وكفاح أجداده في تأسيس البلد الكبير، في هذه الأثناء تمضي الحكاية من خلال عودة فاطمة حبه الأول الذي تخلى عنه في صخب بحثه عن المنصب... ولكن عودته جاءت في صورة فاطمة أخرى هي ابنة فاطمة القديمة والتي تحمل ملامحها واسمها أيضا، فيما تتخلى زوجته «فريدة الراوي» عنه وتطلب الطلاق... بعدما فقد المنصب، وتظل ابنته ملك في صفّه - رمز المستقبل والأمل- وتسير المخطوطة في صراعها الأزلي بين الشر «الغرباء» وأهل الوطن «الشيخ الكبير وذريته الصالحة»، وتظل شخصية فراج البيومي- رغم قصر مساحتها في متن الرواية- رمزا صريحا للظلم الذي يتعرض له شخص أحب وطنه لدرجة الوله، ولكنه لم يجد إلا السجن والعذاب، والمقابل نراه في «راغب» الذي سرق البلد، وحينما وجد الأمر قد استقر له سرق كلمة الشيخ الكبير الخالدة «دونها أو نموت».فالرواية مزدحمة بالصراعات التي لا تنتهي... صراع بين الباحثين عن المنصب وجمع المال والقوة، وبين الطيبين الذين لا يردون إلا السلام... وصراع بين الشر والظلم والقهر والاستبداد وبين الخير والأمل والتسامح... صراع بين النفس التي تجنح إلى إنكار الأصل والتشبث بالوهم وبين النفس المتمسكة بأصلها... وفي المقابل وضعت الرواية هذه الصراعات كفعل مستمر لن ينتهي.
مشاركة :