مع إعلان نتائج الدورة الأولى من انتخابات الرئاسة الفرنسية وتصدر المرشح الوسطي إيمانويل ماكرون ومرشحة اليمين مارين لوبان النتائج، دخلت فرنسا حيز الدول الغربية ذات النظام الديمقراطي الليبرالي التي تمر بمرحلة «الانقلاب» على المشهد السياسي. ففجأة أصبح الحزبان الرئيسيان لفرنسا خارج إطار الانتخابات الرئاسية وخرج عن سيطرتهما تقرير مصير من سيدخل قصر الإليزيه. ففوز ماكرون ولوبان يعني أن الجولة الأخيرة من الانتخابات الرئاسية الفرنسية لن يخوضها مرشح من الحزبين السياسيين التقليديين؛ «الاشتراكيين» و«الجمهوريين». وهذا التطور يأتي بعد فوز الرئيس الأميركي دونالد ترمب بالرئاسة الأميركية، تمثيلاً للجمهوريين، على الرغم من كل جهود ماكينة الحزب الجمهوري لمنع ترشحه خلال مرحلة الانتخابات الأولية للحزب. وأما حزب العمال البريطاني، فباتت قيادة النائب اليساري جيرمي كوربن له نقمة على الحزب الذي فقد القدرة على جلب الأصوات والناخبين. فسيطرة النقابات على حزب العمال جعلت الحزب قادراً على اختيار المرشح المفضل له، ولكن لم ينعكس ذلك على رغبة الناخب بعد تراجع نسب شعبية الحزب تحت إشرافه. وتشهد الدول الغربية ظاهرة عرفناها في العالم العربي منذ عقود، وهي تفضيل العامة شخصية معينة، وفي كثير من الأحيان «شعبوية»، على برنامج انتخابي متكامل، وماكرون وترمب مثالان بارزان على هذه الظاهرة؛ إذ استطاعا جلب الأصوات خارج النظم الحزبية. كما أن عمدة لندن الحالي، صديق خان، يعارض علناً موقف حزبه من الخروج من الاتحاد الأوروبي (بريكست)، ويعد من أكثر الساسة شعبية في المملكة المتحدة. هذه التطورات جاءت بسبب ظواهر عدة، على رأسها ظاهرة تحرر أساليب التواصل المباشر مع الناخب. واشتهر الرئيس الأميركي دونالد ترمب باختياره التواصل مع الناخب عبر 140 حرفاً من خلال موقع «تويتر»، بدلاً من إنفاق الملايين على إعلانات التلفزيون التقليدية. كما أن تمويل الحملات السياسية الانتخابية يشهد تغييرات بارزة؛ إذ باتت التبرعات الشخصية الصغيرة، مثل تلك التي مولت حملة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، من أهم وسائل تمويل الحملات الانتخابية. ومن الأساليب التي اعتمدتها حملة ماكرون التواصل مباشرة مع الناخبين، وطرق أبوابهم للحديث عن الانتخابات والوضع السياسي في البلاد، وهو أسلوب أقرب إلى الحملات الانتخابية الأميركية والبريطانية، لم يعهده الناخب الفرنسي. وتعاني الأحزاب السياسية ما تعانيه الصحف ووسائل التواصل التقليدية، من التغييرات التكنولوجية والثقافية؛ إذ لم تعد الوسيلة الوحيدة للتواصل مع الفرد. وفقدان السيطرة الحصرية على «الرسائل» الإعلامية أو الانتخابية يدفع باتجاهات من الصعب التنبؤ بها. كما أن أبرز وسيلة لمعرفة توجهات الناخب، أي استطلاعات الرأي، باتت شبه مندثرة؛ إذ إن وسائل إجراء استطلاع الرأي التقليدية عبر الهاتف الأرضي تجلب نتائج غير دقيقة. الحاجة للابتكار في الحملات الانتخابية، والخروج عن التقاليد المألوفة، تضع الأحزاب السياسية في الدول الليبرالية الغربية أمام مفترق طرق، فقدرة الأحزاب على اختيار مرشحين ينفذون ما تريده القيادات الحزبية، أخذت تتراجع وتجعل تلك القيادات أقل شعبية. فعلى سبيل المثال، تفضيل الحزب الديمقراطي المرشحة السابقة للانتخابات الأميركية هيلاري كلينتون على حساب المرشح الشعبوي بيرني ساندرز كلف الحزب الملايين من الأصوات. ومؤسساتية الأحزاب لم تعد جوهرية في تحديد مسار المنافسة الانتخابية، ولكن من غير الواضح ما الذي سيحل محلها. قال حاكم أوهايو جون كايسيك، الذي تنافس مع ترمب للحصول على ترشيح الحزب الجمهوري في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، إنه يتوقع «انتهاء» الأحزاب السياسية. وصرح يوم الأحد الماضي بأن «الناس باتت لا تهتم بالحزب... يريدون التحرك والإنجازات»، وليس المواقف السياسية. ولكن من المبكر إعلان «انتهاء» الأحزاب السياسية، فقد أثبت بعض الأحزاب إمكانية النجاح من خلال المرونة في التجاوب مع آراء الناخب. على سبيل المثال، عندما صوت غالبية البريطانيين بالخروج من الاتحاد الأوروبي العام الماضي، انتقلت قيادة الحزب إلى تيريزا ماي التي كانت قد أعلنت تأييدها البقاء في الاتحاد، ولكن لم تتردد في تغيير موقفها لتساير الواقع السياسي الجديد. وبريطانيا التي تستعد لانتخابات حاسمة يوم 8 يونيو (حزيران) المقبل، تشهد انتخابات مرتكزة على الاستقطاب حول الاتحاد الأوروبي. والبعض لا يرى الاستقطاب الحالي في الغرب متعلقاً بآلية عمل الأحزاب، بل يربطه بخلاف أعمق حول العولمة. تشهد تلك الدول صراعاً بين أنصار العولمة والانفتاح، وأنصار السياسات الحمائية والشعبوية. وعلق بن رودز، مستشار الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، في صفحته على موقع «تويتر» بأن «أوباما وترودو وماكرون خاضوا أشكالاً مختلفة من حملة مماثلة»، تدعو إلى الليبرالية والانفتاح وتناصر العولمة. وبناء على هذه الاختلافات العقائدية تبنى التحالفات السياسية، ولكنها لا تعطي الاستقرار السياسي بعيد الأمد. التحالفات السياسية لا يمكنها أن تحل محل الأحزاب السياسية؛ إذ التقلبات قصيرة الأمد تضر بالأحزاب التي تعتمد على ولاء الناخب لأكثر من جولة أو جولتين من الانتخابات. والتأثير بعيد الأمد على الأحزاب السياسية الغربية يعد بمرحلة جديدة لرسم سياسات حزبية تختلف جذرياً عن تلك التي تبلورت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، ولكن لم تظهر ملامحها بعد.
مشاركة :