"في عام واحد غيرنا وجه السياسة الفرنسية".. هذا ما جاء على لسان المرشح الوسطي في السباق نحو قصر الإليزيه، إيمانويل ماكرون، إثر فوزه في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية الفرنسية. تصريح شاب ذي 39 ربيعا لم يكن من فراغ أو من عدم، فالسياسي الوسيم الذي لم يشغل أي منصب منتخب وكان مغمورا قبل 3 سنوات، تمكن من الاندفاع بقوة نحو رئاسة الجمهورية الخامسة متأهبا لدخول قصر الإليزيه بعد أسبوعين، وتمكن من حصد 24.01 من أصوات الناخبين وذلك ليس بالأمر الهين. يطرح ماكرون نفسه كمرشح "الغضب الحقيقي" والتجديد، في مواجهة الوجوه ذاتها منذ ثلاثين عاما في الطبقة السياسية، مؤكدا أن الأوضاع لا يمكن أن تستمر على ذات المنوال. الموظف الكبير السابق في دواليب الدولة الفرنسية والمتخرج من معاهد النخب عمل مصرفيا ذات يوم، ودخل السياسة عام 2012 كمستشار لفرانسوا هولاند، تبعتها سنتان على رأس وزارة الاقتصاد، يقول إنه استخلص منها عبرة أساسية وهي أن النظام السياسي الحالي يعاني من "خلل وظيفي"، حيث حمل هذا الحدس الوزير الشاب، مطلع 2016، على تأسيس حركته التي اختار لها اسم "إلى الأمام"، ووصل عدد أعضائها إلى حوالي 200 ألف، ويترشح إلى الانتخابات الرئاسية عارضا برنامجا ذا توجه اشتراكي ليبرالي. صحيح أن إيمانويل ماكرون استفاد من المتاعب التي واجهها مرشح اليمين فرنسوا فيون بعد اتهامه رسميا بفضيحة وظائف وهمية لصالح أفراد عائلته، بالإضافة إلى رغبة الفرنسيين في التجديد السياسي، كانا من العوامل، دعنا نقول، "الأساسية" لميلاد سياسي دون أي خبرة انتخابية. إلى لحظة كتابة كل هذه السطور، وظاهريا، تبدو الأمور طبيعية لشاب طموح يريد أن يحقق أهدافا مشروعة، لكن ما خفي يمكن أن يكون أعظم، فالاسم وحده لو قرأناه مشكولا، "مَاكِرُون"، يحل اللغز والشيفرة وراء بزوغ وسطوع نجم السياسي الفرنسي. فكل من تابع حملة المرشح المستقل لاحظ اعتماده خطابا خارجا عن إطار الأحزاب التقليدية يتسم بالليبرالية، ليبرالية واقتصادية واجتماعية، ليجتذب أوساط الأعمال وشبان المدن، ناهيك عن تلقيه دعم شخصيات أساسية مثل رئيس الوزراء الأسبق دومينيك دو فيلبان والسياسي الوسطي فرنسوا بايرو. وبالإضافة إلى الدعم السياسي، فاز ماكرون بتأييد حوالي 40 خبيرا اقتصاديا معروفا أشادوا في نص مشترك بمشروعه من أجل الاتحاد الأوروبي ووصفوه بأنه "صفقة جديدة" أوروبيا، حيث ترجم السياسي الفرنسي المناصر لأوروبا "في الصميم"، هذا الدعم وعزز موقعه بزيارة لبنان في نهاية يناير/كانون الثاني والتقى المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل في منتصف مارس/آذار في برلين. وقبل ثلاثة أيام من الانتخابات، تلقى اتصالا هاتفيا من الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، الذي أعرب لاحقا على لسان المتحدث باسمه، عن "تقديره" للحديث الذي جرى بينهما، من غير أن يعلن دعمه الرسمي له. هذا واتسعت رقعة التأييد منذ صدور النتائج الأولية للمرحلة الأولى لانتخابات الرئاسة الفرنسية ومرور "مرشح الجميع" إلى جولة الإعادة المقررة في 7 مايو/أيار، والتي سيواجه فيها مرشحة أقصى اليمين مارين لوبان، حيث رحب قادة أوروبيون بوصول ماكرون إلى المرحلة الثانية من الانتخابات. ودعا مرشحون خاسرون في اليمين واليسار الناخبين إلى التصويت لماكرون ضد مارين لوبان في المرحلة الثانية من الانتخابات الرئاسية، لتنطلق على إثرها حملة "الشيطنة" لمرشحة أقصى اليمين، فتصريحات فرانسوا هولاند كانت مباشرة وعلنية واصفا صعود زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان للإعادة بالخطر على فرنسا، ودعا الناخبين إلى دعم مرشح الوسط إيمانويل ماكرون في الجولة الثانية. وشدد الرئيس الفرنسي على أن وجود أقصى اليمين في الجولة الثانية خطر على البلاد، مضيفا أن بناء فرنسا ووحدتها وعضويتها في أوروبا ومكانتها في العالم على المحك الآن. كل ذلك لم يخفَ عن مارين لوبان حيث وعدت بقلب الطاولة على هيمنة المؤسسات الأوروبية والأوساط المالية قاصدة كل داعمي إيمانويل ماكرون الذين استنفروا لقطع طريق الإليزيه أمام مرشحة أقصى اليمين، بما فيها الصحافة الفرنسية التي شبهت مرور لوبان للجولة الثانية بـ"الانفجار الكبير" الذي وجه ضربة قاضية لليمين وطرح اليسار أرضا لتفرض واقعا جديدا على المشهد السياسي الفرنسي كما تمت هيكلته منذ بداية الجمهورية الخامسة. وهاجمت مارين لوبان منافسها في الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية ممثل الوسط إيمانويل ماكرون قائلة إن "جبهة جمهورية متعفنة تحاول تشكيل ائتلاف"، قائلة إن الجبهة الجمهورية البالية المتعفنة تماما والتي لم يعد أحد يرغب فيها ورفضها الفرنسيون بعنف استثنائي، تحاول تشكيل ائتلاف حول السيد ماكرون. ويستخدم تعبير "الجبهة الجمهورية"، للإشارة إلى مسؤولين سياسيين من كل الاتجاهات، يدعون إلى قطع الطريق على أقصى اليمين للوصول إلى الرئاسة. كما وصفت مرشحة اليمين للانتخابات الرئاسية الفرنسية، المرشح المستقل إيمانويل ماكرون، بـ"الضعيف" في مواجهة الإرهاب "الإسلامي"، مضيفة أنه لا يملك أي مشروع لحماية الشعب الفرنسي من "الإسلاميين". وتخوض زعيمة أقصى اليمين الفرنسي معركة انتخابية لتحقيق انتصار تاريخي في الانتخابات الرئاسية الفرنسية بعد فشل والدها قبل 15 عاما، وركزت المرشحة في خطابها على عنوان "الفرنسيون أولا" سياسيا واقتصاديا، كما تراهن لوبان على استياء الفرنسيين حيال البطالة والهجرة، مدعومة في ذلك بموجة قومية تجتاح أوروبا ونزعة تتزايد من أجل إقفال الحدود والأبواب أمام المهاجرين. جولة ثانية حاسمة، حكم على مسارها ولو مؤقتا بأنها ستكون من نصيب ماكرون من أجل الإطاحة بأقصى اليمين، لكن تبقى كلها تكهنات واستطلاعات ولا أحد لديه اليد العليا إلا الشعب الفرنسي في تحقيق مصيره عبر الصناديق. ياسين بوتيتي
مشاركة :