« ترجمان الأشواق »..العشق بين الوجه والقناع

  • 4/26/2017
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

الشارقة: محمد ولد محمد سالم يقع كتاب «ترجمان الأشواق» في المنطقة التي يلتقي فيها الغزل بشعر الحب الإلهي، فهذا الديوان الذي أنشأه شيخ الصوفية الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي (558ه - 638ه)، تنازعته في نشأته عاطفتان، كانتا تتجاذبان صاحبه إبان نظمه لقصائده، إحداهما عاطفة الحب لفتاة بارعة الجمال اسمها النظام بنت الشيخ أبي شجاع بن رستم الأصفهاني التي تعرف إليها في بيت والدها، وكان أبو شجاع أحد شيوخ العلم المبرزين بمكة، وقد أخذ عنه ابن عربي بعض علومه، هو وأخته العالمة شيخة الحجاز فخر النساء بنت رستم، وصارت بينه وبين «النظام» مودة ومجالس، وأعجب بجمالها وظرفها وعلمها الجم، فأحبها حباً جارفاً، وثانيتهما عاطفة صوفية، كانت قد اختمرت قبل ذلك واكتملت أدواتها معرفة وممارسة، إذ كان قد خلف وراءه أربعين سنة أنفقها في طلب العلم منذ كان يافعاً. تنقل ابن عربي من مرسية الأندلسية التي ولد فيها إلى معظم حواضر الأندلس التي كانت يوم ذلك تزهو بمن فيها من أكابر العلماء والمتكلمين والمتصوفة، فأخذ عنهم جميعاً العلم والكلام والتصوف، حتى تبحر في كل ذلك، وأصبح أهلاً للتدريس والتأليف، وخلال تحصيله ركنت نفسه إلى التصوف، متأثراً في ذلك أولاً بوالده علي بن محمد الذي كان إماماً من أئمة الفقه والحديث، ومن أعلام الزهد والتقوى والتصوف، كما صحب ابن عربي المتصوفة وحضر في مدارسهم، وتردد على إحدى مدارس الأندلس التي تعلم فيها سراً مذهب «الأمبيذوقلية» المحدثة المفعمة بالرموز والتأويلات والموروثة عن الفيثاغورية والفطرية الهندية، وفي حدود سن العشرين بدأ يتحدث عن الإلهام والإشارات الإلهية التي يتلقاها، والكشف الصوفي الذي يتراءى له في اليقظة والمنام، كما تتلمذ في غرناطة على أبي محمد عبدالله الشكاز وأخذ عنه الزهد والمجاهدة، فحصل له من كل ذلك معرفة وافية وتجربة عميقة في الطريقة الصوفية، وأصبح يشار إليه بالبنان، وبلغ من ذلك أن الفيلسوف ابن رشد طلبه وجالسه وسأله في طريقته. كل ذلك يؤكد أن ابن عربي عندما لقي «النظام» كان قد اكتمل، بل قد بدأ في الإنتاج والإبداع، وصار صاحب إشارات وكلام عميق من كلام الصوفية، فلما نظم الشعر في النظام جاء ذلك الشعر ممزوجاً برؤيته الصوفية حاملاً لإشارات ورموز طريقته، وعندما بث ابن عربي ديوانه ذاك، واشتهر وتلقفه مريدوه كان يدّعي أن كل ما فيه «حب إلهي» وإشارات ربّانية، وأن ما هو ظاهر من غزل ووصف للمرأة، إنما هو كناية عن الحقيقة الصوفية السامية التي تهفو لها نفسه، وتسمو إليها روحه، لكنّ قصائد الديوان كان فيها من المبالغة في وصف جمال المرأة وفتنتها، وذكريات اللقاء بها، وتفاصيل العشق بين المتحابين ما جعل بعض المترصدين لابن عربي يأخذون عليه ذلك، غير مصدقين دعواه بأن كل هذا الغزل إنما هو رموز وكناية عن شيء آخر غير المرأة، ويعتبرون أن ذلك تهتكاً وتصابياً لا يليق بمن هو في مقامه، فكيف به وهو شيخ طريقة وعالم ينسب للزهد والورع، يظهر التصابي، ويبالغ في الغزل ويتهافت في العشق، وقد اضطر هذا النقد ابن عربي إلى شرح ديوانه في كتاب سماه «ذخائر الأعلاق شرح ترجمان الأشواق» بيّن فيه علاقته بالنظام، وكيف كان إعجابه بها ملهماً له في طريقه إلى السمو الصوفي، وأكد فيه أنه إنما كان يعبر بألفاظ الغزل البشري عن الحقيقة الصوفية التي تراءت له، وعما يجده في نفسه، وما يتراءى له من إلهام وإشارات روحية، وفسّر الديوان على هذا الأساس، فأعاد كل وصف أو صورة أو معنى من معاني الحب الأرضي إلى الحب الروحي، وجعل كل ذلك مجازاً للحقائق العلوية التي ينظر إليها الصوفي وتتعلق بها نفسه.يقول ابن عربي في مقدمة شرحه لديوانه عن محبوبته «وكان لهذا الشيخ بنت عذراء، طفيلة هيفاء، تقيد النظر، وتزين المحاضر، وتحير المناظر، تسمى بالنظام وتلقب بعين الشمس والبهاء، من العابدات العالميات السايحات الزاهدات شيخة الجرمين، وتربية البلد الأمين الأعظم بلا مّيْن، ساحرة الطرف، عراقية الظرف، إن أسهبت أتعبت، وإن أوجزت أعجزت، وإن أفصحت أوضحت»، ولكيلا يتشتت ذهن قارئ الديوان بين أسماء المحبوبات الكثيرة الواردة في الديوان، وما يتعلق بهن من صفات ومواضع، فيظن أنه إنما كان رجل حب ووله بالنساء يسعى وراءهن، فقد نبه ابن عربي في مقدمته على أن كل تلك الأسماء وما تعلق بها إنما هي كناية عن محبوبته «النظام»، فقال: «فكل اسم أذكره في هذا الجزء فعنها أكني، وكل دار أندبها فدارها أعني»، ثم أضاف لكي يرتقي بفهم القارئ إلى ما فوق الغزل، ويرشده إلى ما أودعه في شعره من معاني الصوفية: «ولم أزل فيما نظمته في هذا الجزء على الإيماء إلى الواردات الإلهية، والنزلات الروحانية، والمناسبات العلوية، جرياً على طريقتنا المثلى، فإن الآخرة خير لنا من الأولى (...) أشير إلى معارف ربانية وأسرار إلهية وأنوار روحانية وعلوم عقلية، وجعلت العبارة عن ذلك بلسان الغزل والنسيب لتعلق النفوس بهذه العبارة فتتوفر الدوافع إلى الإصغاء إليها، وهو لسان كل أديب ظريف روحاني لطيف». تعني كلمة «ترجمان» المعبر عن المكنون الخفي الذي يحتاج إلى إظهار بكلام، ومنه «المترجم» لأنه اللغة التي يترجم منها هي مكنونة مخفية بالنسبة لمن لا يفهمها، ومن المقطوعات الجيدة في الديوان قوله: وزاحمني عند استلامي أوانس أتينَ إلى التطوافِ مُعتجراتِ حَسَرنَ عن أنوارِ الشُّموسِ، وقلنَ لي تورّع، فموتُ النفسِ في اللحَظاتِ وكم قد قتَلنا، بالمُحَصَّبِ من مِنىً نفوساً أبيّاتٍ لدَى الجَمَراتِ وفي سَرحةِ الوادي وأعلامِ رامةٍ وجَمعٍ، وعند النّفْرِ من عَرَفاتِ ألم تدْرِ أنّ الحُسنَ يسلُبُ مَن لهُ عفافٌ، فيُدعى سالبَ الحَسناتِ فموعدُنا بعدَ الطّوافِ بزَمزَمٍ لدى القُبّةِ الوُسطى لدى الصّخراتِ هُنالكِ مَن قد شفّهُ الوَجدُ يَشتفي بما شاءَهُ من نسوَةٍ عَطراتِ إذا خِفنَ أسدَلنَ الشعورَ فهنّ من غدائرها في ألحُفِ الظُّلُماتِ ويعقب ابن عربي على كل بيت من هذه الأبيات بالشرح مستخرجاً الإشارات الإلهية والمقاصد البعيدة التي رمى إليها منه، فمثلاً يقول عما أراده بلفظة «أوانس» أنها الأرواح التي تسبح بحمد ربها، وأنه سماهم الأوانس لوقوع الأنس بهن بالنسبة للصوفي الذي تكشف له حجب الحقائق، وهكذا على هذا المنوال يصرف ابن عربي الجمل والأسماء الواردة في قصائده عن ظاهرها إلى باطن روحاني يلائم رؤيته الصوفية. ومن شعره في الديوان أيضاً: مَرضِى منْ مريضة ِ الأجفانِ علِّلاني بذِكْرِهَا عَلِّلاَني هَفَتِ الوُرقُ بالرّياضِ وناحَتْ، شجوُ هذا الحمامِ مما شجاني بِأبي طَفْلَة ٌ لَعُوبٌ تَهَادَى من بناتِ الخدورِ بين الغَواني طلعتْ في الخيامِ شمساً، فلمَّا أفلتْ أشرقتْ بأفقِ جناني يا طُلولاً برامة دارساتٍ، كم رأتْ من كواعبٍ وحِسانِ بأبي ثمَّ بي غزالٌ ربيبٌ يَرْتَعِي بينَ أضلُعي في أمَانِ مَا عليه مِنْ نارِها، فهْو نُورٌ، هكذا النورُ مُخمِدُ النِّيرانِ يا خَلِيلَيّ عَرّجَا بعِناني، لأرى رسمَ دارِها بعِياني وقِفا بي على الطّلولِ قليلاً، نتباكى، بلْ أبكي ممَّا دهاني الهَوَى راشقي بغَيرِ سِهَامٍ، الهَوَى قاتلي بغَيْرِ سِنَانِ .

مشاركة :