تفادت فرنسا رصاصة حين نجح المرشح الجديد الشاب الموالي للاتحاد الأوروبي في إنزال الهزيمة بالقوى الرجعية، ومن شبه المؤكد أنه سيفوز في الانتخابات الرئاسية، يا لها من راحة! تبدو أسواق الأسهم سعيدة، شأنها في ذلك شأن الموالين للاتحاد الأوروبي، كذلك صار هذا الاتحاد في مأمن في الوقت الراهن. ولكن لا تتنفسوا الصعداء بعد، يبقى الخبر الحقيقي أن المؤسسة السياسية الفرنسية تعرّضت لرفض حازم، وللمرة الأولى في التاريخ لا ينتمي أي من المرشحَين النهائيين إلى حزب كبير، وفضلاً عن ذلك يتسلل فرانسوا هولاند، الذي بات على الأرجح محور الكراهية الأكبر في فرنسا، خارجاً من منصبه مع معدل شعبية انخفض إلى 4%، كذلك يرأس الفائز في الجولة الأولى، إيمانويل ماكرون، حزباً جديداً لا يملك أي مقاعد في الجمعية الوطنية. في المقابل حصل الشعبويون المناهضون لأوروبا على أكثر من 40% من الأصوات، ولا شك أن هذا الخبر يشكّل خضة كبيرة لا تقل شأناً عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أو انتخاب دونالد ترامب. خلال المرحلة التي سبقت الانتخابات، لم يجد الصحافيون الأجانب البارزون الذين يعرفون البلد جيداً، أي سبب للفرح، فقد تحوّلت مدن فرنسا الصناعية القديمة العريقة إلى صدأ، وباتت ضواحي باريس مصانع للجهاد، في حين أخفقت عملية الدمج. وعلى غرار الأمم الغربية الأخرى، تداعت خطوط الفصل السياسية القديمة وظهرت خطوط جديدة بين المستفدين من العولمة والمتضررين منها، وهكذا صارت النخب المزدهرة العالمية، التي تقيم في المدن، والناس الأقل حركة وثقافة العالقون في الأحياء الراكدة يعيشون في عالمين مختلفين، تماماً كما نرى في بريطانيا والولايات المتحدة. لعل أبرز مَن أرّخوا عملية الانقسام الجديدة هذه عالِم الجغرافيا المُدنية كريستوف غيوي، الذي ألّف كتاباً لقي رواجاً كبيراً بعنوان Le Crépuscule de la France d’en haut (شفق فرنسا في ذروته)، إليك ما ذكره قبل أيام في صحيفة "الغارديان": "يقوم النموذج المعولم خصوصاً على الانقسام الدولي بين العمال، مولّداً ثروة كبيرة، إلا أنه لا يساهم البتة في تعزيز روابط المجتمع. نتيجة لذلك تزداد سوق العمل انقساماً وتتركّز خصوصاً في المدن الكبرى، قاضيةً بالتالي على الطبقات الوسطى، وللمرة الأولى في التاريخ ما عاد العمال يعيشون في الأماكن التي تُنتَج فيها الوظائف والثروات". ولكن هل يستطيع سياسي مبتدئ في التاسعة والثلاثين من عمره تحويل أمة، وخصوصاً أن هذه الأمة عرضة باستمرار لاعتداءات إرهابية؟ هذه مهمة صعبة، ولعل العائق الأكبر الذي يصطدم به هو السأم الثقافي الذي لفّ الطبقات الحاكمة الطبيعية وتركها مثبطة وكئيبة، ففي الكثير من الأمم الغربية يبدو أن الرأسمالية الديمقراطية قد بلغت مرحلة من التصلّب: ما عادت قادرة على نشر رؤية من العظمة الوطنية توحد الشعب. تشكّل طرفة شائعة من كتاب Shattered: Inside Hillary Clinton’s Doomed 2016 Campaign (محطّمة: داخل حملة هيلاري كلينتون عام 2016 المحكوم عليها بالفشل) صورةً مجازية للطبقة الحاكمة الحالية، مهما حاول فريق حملتها جاهداً، عجز عن حل مشكلة أساسية: لمَ أرادت أن تصبح رئيساً؟ ذكر المؤلفان: "كانت هيلاري مرشحةً للرئاسة طوال عقد تقريباً، ورغم ذلك ظلت تفتقر إلى المنطق". وينطبق الأمر عينه على الحزب الديمقراطي بأكمله، وأحزاب الخطوط القديمة في فرنسا، وأمم غربية أخرى كثيرة، باستثناء إحساسهم الخاص بالتنوير، يعجزون عن توضيح لمَ يجب أن نسمح لهم بقيادتنا. لا تقع كل الديمقراطيات الغربية في قبضة التمرّد الشعبوي، وتُعتبر ألمانيا المزدهرة استثناء بارزاً، شأنها في ذلك شأن كندا، في الوقت الراهن على الأقل، ولكن في عصر الاضطرابات، لا يخبرنا الماضي بالضرورة الكثير عن المستقبل، وأنا شخصياً ما زلت قلقاً حيال فرنسا. *مارغريت وينتي * «غلوب أند ميل»
مشاركة :