< تختبئ خلف جدران المدارس قصص إنسانية لا يمكن للذاكرة أن تتجاوزها، رواتها معلمون عايشوا تلك الأحداث بـ«حلوها ومرها»، وذرفوا دموعاً متأثرين بها، وتفاصيلها تعزف على وتر الإنسانية حتى تحوله إلى مشهد إنساني خالص يتجرد فيه المعلم من وظيفته ويتحول إلى أب، والطالب يخلع عن ظهره حقيبة المدرسة ليعود طفلاً عادياً. يقول المعلم فاضل جاسم: «أزعجني الاستئذان المتكرر لأحد طلاب الصف الثالث الابتدائي، إذ يخرج من الصف ليعود بعد دقائق، مما جعلني أشك في أمره، وذات يوم رفضت خروجه فألح عليّ بشكل غريب وبدأ يتوسل إليّ أن أسمح له بالخروج لدقيقتين فقط، فسمحت له وخرجت اتبعه من دون أن يشعر لأستطلع أمر خروجه المتكرر». ولاذ الطالب خلف الفصول، وهنا بدأ الشك يكبر في نفس المعلم، يقول: «أسرعت خلفه وإذا بطالب آخر ينتظره خلف الصفوف وبعيد عن الأعين، وحين وقفت أمامهم وجدته يخلع حذاءه الرياضي ليعطيه ذلك الطالب ويأخذ منه حذاءه المهتري، وحين سألتهم عن السبب التزما الصمت ولم يجيبا». ألح المعلم فاضل على الطالبين بأن يطلعانه على سر ما رأى، إلا أن طالبه وعده بأن يعطيه تفاصيل الحكاية وهم عائدون إلى الصف، وبينما هم يسيرون قال الطالب للمعلم: «إن هذا أخي ولا نملك إلا حذاء رياضياً واحداً، ونحن نتبادل ارتداءه بين الوقت والآخر إذا كان لدى أحدنا حصة رياضة، وهذه كل الحكاية يا أستاذ». ويقول المعلم فاضل: «لم أصب بالحزن والألم بقدر تلك اللحظة، وعلى الفور شكرت الطالب وأعدته للصف، وتوجهت لمدير المدرسة وقصصت عليه الحكاية واتفقنا على خطة بأن ننشأ صندوقاً لدعم الطلاب المحتاجين، وفي اليوم التالي اشتريت حذاءً رياضياً وملابس رياضية أيضاً ودخلت الفصل وقلت للطلاب بأنني سأمنح هذه الجائزة للطالب الهادئ في نهاية الحصة». وضع المعلم اسم طالب واحد فقط في جميع الأوراق التي سيسحبها، وهو «طالب الحذاء الرياضي» وما إن جرى السحب واستلم الطالب هديته حتى اقترب من المعلم وابتسم وقال له: «شكراً لك يا أستاذ». حركت هذه النظرة والعبارة مشاعر المعلم، إذ يبدو أن الطالب اكتشف الحيلة، ونظرته كانت تدل على أنه فهم أن الجائزة كانت مسماة له من دون غيره، وأضاف المعلم: «لن أنسى أبدأ أن هناك طلاباً متعففين حتى وإن كانوا صغاراً، ومن المؤلم أننا لا ندري عن أوضاعهم أي شيء ونكتشف ذلك مصادفة». وفي قصة إنسانية أخرى رواها المعلم محمد عبدالله، لا يزال أثرها عليه قوياً، يقول: «كنت منزعجاً من تكرار معانقة طالب في الصف الثاني لي بسبب ومن دون سبب، وكنت أتحدث مع أحد المعلمين عن هذا الانزعاج فما كان منه إلا أن أطرق برأسه متأثراً وسرد لي حكاية هذا الطفل، الذي لم أكن أعلم بحكايته لأنني حديث عهد بالمدرسة، لأصاب بصدمة قوية جعلتني أغير تعاملي معه على الفور». ويبيِّن أن «الطالب فقد أبوه قبل أشهر إثر حادثة مرورية، لتلحق به أمه بعد شهر فقط، ويبقى الطفل يتيم الأب والأم، وكان عناقه المتكرر لي بسبب اشتياقه لوالديه، لكنني لم أكن أعرف فأصبحت مهتماً وبشكل كبير به أتابع دروسه مع المعلمين وأحرص على أن أعوضه شيء مما خسره، لكن من المؤلم ألا نستشعر صراحة الأطفال فهم لا يعرفون فنون التمثيل، وعناقه لي كان حقيقة كبيرة لا يزال أثرها عليّ على رغم مرور أربعة أعوام على الحادثة». وفي حادثة غريبة جداً كان من بين أطرافها المعلم سعد محمد، الذي يؤكد أن مواقف كثيرة مرت عليه خلال عمله في التعليم، إلا أن حكاية أحد الطلاب كانت الأغرب وأشدها ألماً، يقول: «كنت مناوباً في الفسحة وأتجول بين الطلاب حتى سمعت صراخاً ورأيت شجاراً بين طالبين وعلى الفور وصلت للطالبين وأخذتهما لغرفة وكيل المدرسة، وبعد حل مشكلة الشجار ومصالحتهما قررت أن أتحدث منفرداً مع الطالب الذي بدأ الشجار وكان عصبياً بشكل مفرط». ويضيف: «حين كنا لوحدنا حاولت أن أستفهم منه سبب الشجار وبعد إلحاح علمت أن الطالب الآخر رفع ثوبه قليلاً فنهال عليه بالضرب، وحين سألته لماذا كل هذا الانفعال فالموقف لا يستدعي كل هذا الغضب فأطرق برأسه وسكت وحين ألحيت عليه بأن يجيبني رفع ثوبه فكانت الصدمة». ولم يتمالك المعلم نفسه من شدة الصدمة وأنزل رأسه وبقي لأيام في حال نفسية سيئة، يقول «على رغم أن الحادثة مر عليها أكثر من 13 عاماً إلا أنني أتذكر اللحظة حين رفع الطالب ثوبه ليريني ملابسه الداخلية، التي كانت تخص أخته، وحين سألته عن سبب ارتدائه لها، قال نحن فقراء وأبي مسجون وليس لديَّ ملابس داخلية إلا قليلة وكانت متسخة، وخفت أن يرى الطلاب ملابس أختي فيضحكون عليَّ». ويقول المعلم: «على الفور تشكلت لجنة لمساعدة أسرة الطالب، واجتمعنا مع اللجنة الأهلية في قريته، وحلت مشكلتهم على الفور، وبشرت بعد سنوات بأن الطالب التحق بالجامعة وهو أمر مفرح جداً»، مضيفاً: «خلف أسوار المدارس قصص مؤلمة جداً لو سردت لأحدثت صدمة كبيرة، ونحن المعلمون نتعايش معها كل يوم حتى في أيام الإجازة».
مشاركة :