قبل سنوات صك الناقد المصري د. أيمن بكر أستاذ مساعد الأدب والنقد جامعة الخليج للعلوم والتكنولوجيا بالكويت، مصطلحا شديد الذكاء للتعبير عن فئة من الكتاب لا يستطيعون الانفصال عن نصوصهم فيتماهون معها إلى حد اعتبار كل رأي في تلك النصوص رأيا في ذواتهم. تتمدد الذوات بحرارة إطراء النصوص وتتقلص ببرودة انتقادها أو مناقشتها بموضوعية، ويمكن للتمدد أن يتحول إلى انتفاخ بعضه يصير أوراقا تصيب الثقافة العربية بأدواء يصعب علاجها. في إطار هذه الرؤية كانت محاضرة د. أيمن بكر "الأنانصية .. العلاقة بين المبدع ونصه في الثقافة العربية" التي أدارها الشاعر والكاتب وليد علاء الدين وأقيمت في إطار فعاليات البرنامج الثقافي لمعرض أبوظبي الدولي للكتاب في دورته السابعة والعشرين. بداية سأل د. أيمن بكر: ما علاقة النص بمبدعه؟ وقال إن هذا السؤال يمكن أن يتحرك في اتجاهين يتوقفان على المنظور: ما علاقة النص بالمبدع من وجهة نظر الناقد؟ وما علاقته بالمبدع من وجهة نظر المبدع نفسه؟ وقال "يصر النقد الأدبي منذ فترة طويلة على صنع مسافة موضوعية بين النص ومبدعه، على اختلاف اتساع هذه المسافة من توجه نقدي لآخر؛ فنجد الشكلية الروسية والبنيوية الشكلية والنقد الجديد يفصلان بصورة شبه كاملة بين النص ومبدعه، بمعنى أن هذه العلاقة لا تعني الناقد المنتمي لإحدى هذه التوجهات، النص فقط هو محور العملية النقدية، اللغة فقط هي ما نملكه، ولا قيمة كبيرة لمحاولات إعادة تكوين صورة مبهمة من خلال النص لشخص انقطعت علاقته بتلك المنظومة اللغوية منذ أطلقها في خضم الثقافة بالنشر. ولعل مقولة "موت المؤلف" التي أطلقها بارت أن تكون أوضح إعلان عن هذا الانفصال. في النظريات السردية - وهي وليدة الفكر البنيوي عموما - هناك من يصر على وضع كيان نصي له فعاليات متنوعة اسمه "المؤلف الضمني"، وهو غير متصل بالمؤلف الواقعي من قريب أو بعيد، إنه كما يقول جاب لينتفلت "أيديولوجيا النص"، أي وظيفة لا تهدف لكشف النقاب عن شخصية المؤلف الواقعي بأية نسبة، بل هي تحاول التعرف على ذلك الجزء المضمن في النص من أيديولوجية اشترك فيها المؤلف الواقعي في لحظة بعينها، متأثرا بحالة كتابة معينة ترتبط بهذا النص الإبداعي، ولا تعبر بالضرورة عن مواقف ذلك المؤلف الأيديولوجية في عمومها أو في حركتها الدينامية، إنه مفهوم يهدف أيضا إلى تحليل النص ولا يحاول التعرض لمؤلفه". ورأى د. بكر أن المسافة بين النص ومؤلفه تتصل باكتشاف الفكر النقدي والفلسفي مدى التعقد والدينامية التي يتصف بها التكوين الذهني والنفسي للإنسان، ومدى استقلال النصوص الإبداعية المنتجة في سياقات نفسية/ ذهنية معقدة عن شخصيات مبدعيها بحيث يصبح الربط بين النص ومؤلفه أمرا محفوفا بمخاطر، أهمها السقوط في هوة خطاب تاريخي عن شخص المؤلف؛ ما ينحرف بالخطاب النقدي نحو حالة مضحكة من التحري الجنائي لشخصية المبدع وأفكاره معا، وهو ما تمارسه التيارات السياسية الأصولية حين تحاول إثارة الرأي العام ضد أو مع مؤلف بعينه. وبحسب النظرية السردية، فإن كل ما يمكن استنتاجه عن مؤلف ما، عن طريق تحليل أحد نصوصه، هو أمر يرتبط بلحظة إنتاج ذلك النص بالتحديد، وحتى لو شئنا التعرض لمجموعة أعمال كاتب توقف عن الإبداع بغرض رسم ملامح شخصية المبدع، فسنكون كمن يحاول إكمال صورة وجه من نقاط مرسومة على ورقة بيضاء، ولكن بعد أن سقط عليها المطر؛ بحيث انمحى الكثير منها وارتج الباقي عن مكانه. يمكننا التفكير في النص الإبداعي من وجهة نظر النقد بوصفه لحظة تخرج من آلة الكائن الحي الإبداعية لا لتنضم لمجموع لحظاته الاجتماعية الإنسانية العادية، بل كلحظة خاصة تنفلت من مبدعها لتنضم لتاريخ آخر وعالم آخر له قوانينه المختلفة هو عالم الفن والإبداع بصورة عامة، وتاريخ النوع الأدبي المعين بصورة خاصة. وسأل بكر: كيف يمكن للأفكار السابقة أن تتجاوز حقل النقد الأدبي لتلقي ضوءا على اللحظة الثقافية العربية الراهنة؟ يتطلب ذلك التحول نحو الشق الثاني من سؤال البداية: ما علاقة النص بمبدعه من وجهة نظر المبدع؟ وقال: "محاولة الإجابة عن السؤال السابق ستكشف عن نمط ينتمي للنخب العربية المبدعة؛ وهو نمط يوحد بين إنتاجه الإبداعي وذاته، بين نصه وشخصه، إنه نمط يقول لك في كل سلوكياته: أنا نصي. فهو متماه مع النص حيث يكتسب توازناته الأساسية عبر هذا التماهي. الفكرة السابقة يمكنها أن تكشف عددا من الملامح النفسية والسلوكية داخل أوساط النخبة خاصة في تعامل بعضهم مع البعض الآخر. وأوضح أن أول هذه الملامح هو صعوبة تقبل هذا النوع من المبدعين لأي اختلاف حول رؤية نصوصهم، خاصة عندما يكون هذا الاختلاف متضمنا حكم قيمة لا يرضي تصورات المبدع عن قيمة نصه، وهو غالبا ما يحدث في ثقافتنا. الأزمة في هذا التصلب تكمن بداية في التوحيد بين النص والمبدع، الذي يشعر بجرح شخصي حين يتعرض إبداعه لرؤية تقلل من القيمة المفترضة لنصه/ذاته. فكرة أن يحكم عليك الآخرون نفسها فكرة مؤلمة. القارئ خالي الذهن سيحكم على النص وهو لا يدري أنه يمس مساحة التهاب. يتسبب ذلك في كثير من الخلافات التي تتخذ مسارها الطبيعي، خاصة إذا كان طرفا الخلاف يمارسان التماهي نفسه مع ما يبدعان - فتنتهي بتجريح شخصي متبادل، أو معارك على صفحات الجرائد تصل أحيانا لساحات القضاء. وقدم د. بكر نماذج لخلافات مشهورة "أنا أهم شاعر في القرن" صيحة أطلقها أحد الشعراء في جلسة ضمت عددا من الكتاب والنقاد بمكان عام في القاهرة وكنت شاهدا عليها، بعد أن قام أحد الحضور بانتقاد ما يكتب، ظل الشاعر صامتا كمن يستمع، ثم وقف مطلقا الصيحة السابقة بصوت مرتفع لفت إلينا أنظار كل من كان بالمكان، كنا نتخيل أنه يستمع للنقد ويفكر فيما يقال، ولم نتوقع قط أن كلمات النقد الموجهة للنص كانت تسبب له شخصيا نزيفا موجعا يزداد ألمه مع كل كلمة نقد للنص. لم ير الشاعر الجريح في كل ما قال ناقده سوى حكم قيمة جارح على ذاته، لذا جاء رده الصارخ في صيغة حكم قيمة مضاد، والمبالغة الشديدة في الحكم المدافع عن الذات "أهم شاعر في القرن" تعكس حجم الجرح الذي استشعره جراء نقد نصه. وأضاف "الملمح الثاني له علاقة بالرغبة في الثبات، وأعني بذلك ما يشبه الغريزة التي يمكن التعرف عليها في ثقافتنا سواء على مستوى الأفراد أو المؤسسات، وهي الرغبة في تثبيت ملامح محددة معرِّفة للذات ومحققة لحدود دنيا من الأمان والسلام الداخلي، هذه الرغبة في التثبيت تتجلى في أشياء كثيرة، منها ما نراه من محدودية تطور التجارب الفنية والإبداعية". ولفت أيمن بكر إلى أنه عندما يتماهى المبدع مع نصه يصبح ميله لتثبيت ملامح مميزة ومعرفة للنص/الذات أكبر من ميله للتجديد والتطوير، حيث يصبح الميل للتكرار ولتأكيد خصائص نصية معينة هو الوجه الآخر لرغبة المبدع تأكيد خصائص ذاتية شخصية معينة. لعل ذلك يفسر صعوبة قبول المبدعين من أصحاب المجال الواحد لتجارب بعضهم البعض، إذ يندر أن تلتقي شاعرا محبا أو حتى متعاطفا مع تجربة شاعر آخر، أو روائيا قادرا على رؤية أبعاد الجمال والتميز في روائي آخر.. الخ. لقد صار الاعتراف المتبادل صعبا، والسبب في إطار هذا الجدل هو أن القدرة على تجاوز الذات أصبحت محدودة، والتماهي مع المنتج الإبداعي يجعل القدرة على تجاوز القيم الجمالية لما يكتبه المبدع المتماهي محدودة بالدرجة نفسها. بعبارة أخرى، هناك علاقة طردية بين قدرة الشخص المتماهي مع إبداعه على تجاوز ذاته الإنسانية والتفاعل مع غيره من ذوات، وبين قدرته على تجاوز ذاته الفنية والتفاعل مع غيره من رؤى وتصورات إبداعية. (النقيض يتضح لنا في المؤتمرات الدولية حين نلمح رغبة في المعرفة وتطوير الذات لدى الباحثين الأجانب، في مقابل انطوائية وريبة تميزان سلوك الباحثين العرب غالبا). وأكد أنه ربما كانت أجيال المبدعين العرب التي ترعرعت في ظل المشروع القومي في الخمسينيات والستينيات والتي ظلت تملأ ساحة الإبداع حتى نهاية السبعينيات هي أكثر الأجيال التي يتضح فيها هذا التماهي بين النص ومبدعه، فتجد مجموعة من المبدعين الذين ظهروا كجماعة متجانسة يتحولون إلى أعداء تقريبا بمجرد أن يتبلور لكل منهم مشروع إبداعي يميزه، تجدهم يتربصون ببعضهم بعضا في الجرائد والمجلات واللجان والمنتديات، ولا يتركون فرصة إلا نال فيها بعضهم من بعض إنسانيا وفنيا، ولولا هذا التماهي بين العمل الإبداعي ومبدعه لكانت الأمور أكثر بساطة من ذلك، ولاتخذ الخلاف بين المبدعين شكلا هادئا متحضرا يليق بكونهم من النخبة. وحول إمكانية فكرة وجوب الفصل الحاد والكامل بين المبدع ونصه مرة أخرى، قال بكر "دعونا نختبر ذلك، أظن أنه علينا التمييز بين مرحلتين في التعامل مع علاقة المبدع/النص، المرحلة الأولى هي فترة الكتابة التي يبدو أن المبدع يلتحم فيها التحاما من نوع خاص مع وعيه، وأقصد تحديدا مع كل ما يفهم ويشعر عن نفسه وعن العالم رغبة في التعبير عن كليهما، أو عن وضع الذات في العالم ضمن سياقات محددة. هنا يمكن توقع ذروة النشاط والالتحام بين الذات وما تنتجه، وبحسب جاك دريدا يبدو هنا أن حالة استيعاب الوعي لذاته أو تجليه أمام نفسه تكون في أوضح صورها الممكنة، دون أن يعني ذلك تجلي الوعي تماما أمام نفسه، أو تحقق الحضور الكامل المثالي للذات. بعبارة أخرى يمكن النظر للحظات الإبداع الأدبي والفني بوصفها أقصى ما يمكن تحقيقه من حلم حضور الذات والوعي كليهما. بحيث يصبح تعبير المنتج الفني عن الذات والوعي في أعلى احتمالاته". واستدرك د. بكر متسائلا: هل تبقى العلاقة بينهما بهذا القدر من التداخل التفاعلي المربك؟ وقال "إن فعل الكتابة الإبداعية أو الخلق الفني في الموسيقى أو الرسم أو غيرهما لا يترك وعي المبدع كما كان، بل لعل لحظة الانتهاء من العمل الإبداعي أن تكون هي نفسها اللحظة التي يبدأ فيها المؤلف تجاوزه لحالة الوعي التي أنتجت هذا العمل. بعبارة أخرى: تتضمن حالة الوعي النشطة التي تكشف الذات أمام نفسها خلال لحظات الإبداع، قدرة فائقة على نقد الذات وتنشيطا عميقا لحلم الوصول بها إلى حالة مثالية من الاكتمال. تكتمل أو تتجلى مرحلة من مراحل الوعي عبر العمل الإبداعي نفسه، ويكون هذا إيذانا ببدء مرحلة أخرى تسعى للانفلات مما تبدى للذات الساعية نحو اكتمال آخر يتجاوز المرحلة السابقة. وهنا ربما توجب على المبدع الساعي لتطوير ذاته ومنتجه الفني أن يهرب مما كتب لا أن يلتصق به". محمد الحمامصي
مشاركة :