أيمن بكر يؤكد أن الذات ترتبط بالآخر ارتباط وجود

  • 7/26/2017
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

أكد الناقد د. أيمن بكر أن التوجه الساعي لإقامة حياة إنسانية يسودها التكامل والتفهم المتبادل والعميق بين الثقافات، ليس حكرا على ثقافة بعينها، بل يبدو أن هذا التوجه هو حالة وعي يمكن أن يصل إليها كل شخص يتسع برؤاه الإنسانية، وهو ما لا يقتصر على جنس دون آخر أو ثقافة دون أخرى. وقال: "لعل ذلك يبدأ من النظر إلى ثقافة الذات القومية بوصفها أمرا ينجزه الأفراد في كل لحظة، وليست شيئا مكتملا يرثه الأفراد عن أجدادهم، ولا يفعلون سوى تطبيق قوانينه المسبقة. تقول جوانا سميث في تحديدها أهم ما يجب على النقاد والمنظرين الثقافيين أن يقاوموه: ولعل أهم ما يجب أن يقاومه النقاد الذين يعملون على الدراسات الثقافية، هو الفكرة السائدة عن الثقافة بوصفها كلا مكتملا قد تمت صياغته بصورة نهائية. وحري بنا القول إن الثقافة هي في الواقع مجموعة من الثقافات المتفاعلة، مجموعة من الثقافات الحية المتنامية والمتغيرة". وأضاف في في كتابه "الآخر في الشعر العربي.. المتنبي ـ شوقي ـ العريض" إن الثقافات التي تُنجز كل يوم هي ثقافات يؤمن أفرادها بفعاليتهم، وبقدرتهم على تعديل وجهات تلك الثقافات؛ بالمزيد من الدأب والتأكيد للقيم الإنسانية. ولنا أن نطمح في أن تكون فكرة التفاعل بين الثقافات الحية المتغيرة جزءا رئيسا من وعي عوام الشعوب، وليس أمرا مقتصرا على النقاد الثقافيين المتخصصين. وقال في تمهيده للكتاب: في مثل هذا الواقع الثقافي الذي يتشكل في كل لحظة علينا أن نعلن انحيازنا للرؤية التفاعلية، فحين نقول: "الآخر" يجب علينا أن نقول: "الذات" في اللحظة نفسها إن استطعنا؛ حيث يرتبط تعريف أحدهما بالآخر ارتباط وجودٍ، أو ارتباط وجهي العملة الواحدة كما رأينا. ومن زاوية التنظير يمكن لتكرار الخطاب المعبر عن هذه الفكرة والإصرار عليه أن يكون بحد ذاته عامل تغيير في الواقع العالمي؛ فكما يقول تودوروف: "الخطاب هو أيضا حدث محرك للتاريخ، وليس فقط تمثيلا له". ولفت إلى أن الهدف من كتابه الصادر عن دار صفصافة للنشر أبعد ما يكون عن الدعائية السياسية للذات، بل ربما يقترب في أحايين كثيرة من محاولة نقدها، وذلك عبر اكتشاف صورة الآخر بصياغاتها المختلفة في الشعر العربي، من خلال ثلاثة من شعرائه الكبار؛ سواء الذات التي يشكل الآخر جزءا مندمجا فيها لحظة أن جمعتهما مواطنة مشتركة، خلال فترة الإمبراطورية العربية الإسلامية (أبو الطيب المتنبي)، أو الآخر بوصفه الغربي المحتل في فترة تراجع الثقافة العربية (أحمد شوقي)، وأخيرا الآخر حال نديته للذات ودخوله معها في علاقات تفاوضية وتنافسية على أرضية من المساواة، بعد حركات التحرر الوطني التي عمت العالم النامي وضمنه العالم العربي (إبراهيم العريض). وأضاف: أن استكشاف صورة الآخر عن طريق تحليل الخطاب الشعري ليس بسهولة اكتشاف الصورة نفسها عبر السرد؛ إذ يبدو الشعر خطابا أدبيا منتبها لجماليات اللغة وطاقاتها التصويرية، بأكثر من انتباهه للرسالة التي يقدمها، أو لدرجة تعبيره عن واقع ثقافي بعينه، وهو الأمر الذي يبدو السرد أكثر اقترابا منه. لكن السبب نفسه يفتح أمام الدراسات الثقافية، التي تتخذ من الشعر مادة للتحليل، مساحةً تحليلية واسعة يمكنها أن تسهم في فهم أعمق لصورة الآخر في الثقافة العربية، فالأدب كما يقول أبرامز هو "صيغة من صيغ (الممارسات الدالة) ثقافيا"، وبذلك يمكن أن نتعامل مع الشعر كنافذة مشرعة دائما على التأويل، بغرض فهم الثقافة ككل، وهو ما يأمل البحث أن يحققه من خلال الشعراء الثلاثة الذين يقوم بتحليل إبداعاتهم". لا يقف د. بكر عند استجلاء صورة الآخر في شعر ثلاثة من شعراء العربية الذين برزت في أشعارهم تلك الصورة (المتنبي/أحمد شوقي/إبراهيم العريض)، بل حاول استنادا للصورة السابقة، أن يقف على بعض سمات اللحظات الحضارية الثلاثة التي عاشها الشعراء، وهي اللحظات التي يحتل فيها الآخر موقعا خاصا؛ ففي حين حملت الثقافة العربية الإسلامية مشعل الحضارة الإنسانية في العصر العباسي، وكان الآخر المغاير عرقيا وثقافيا يمثل - في جانبه الأكبر - رافدا مغذيا، وجزءا مندمجا ضمن الإمبراطورية العربية الإسلامية الكبرى التي شملت أجزاءً واسعة ومؤثرة من العالم القديم، في حين ذلك، مثل الآخر في عصر شوقي، بالأساس، العدوَّ المحتلَّ، أو في أفضل الحالات مثل الغريب المخيف، وكانت الثقافة العربية في حال انحسار وقف بها عند حدود التلقي من الآخر، بعد أن مرت بقرون عجاف توقفت فيها بصورة كاملة تقريبا عن المشاركة الفعالة في الحضارة الإنسانية. هنا كان وجود الآخر ملتبسا يتسم بصفات متناقضة ومتعايشة في آن، وهي الحال التي شهدت تطورا ملحوظا في لحظتنا الحضارية الحالية؛ تمثَّل في حركات التحرر الوطني، واكتشاف موارد متنوعة للثروة في مختلف أرجاء الوطن العربي، وهما العاملان اللذان سمحا بتصاعد ملحوظ للوعي الباحث عن الخصوصية الثقافية، الوعي الذي أحسبه قد عانى كثيرا – وربما لم يزل يعاني – من أجل استيعاب التفاوت المعرفي/التكنولوجي بين الثقافة العربية ونظيرتها الغربية. وأشار إلى أن اللحظة الحضارية الأخيرة عاشها الشاعر الثالث الذي تركز عليه هذه الدراسة، وهو الشاعر البحريني إبراهيم العريض الذي ولد بالهند عام 1908، وامتد به العمر ليشهد هذه التحولات جميعا (ت 2001)، وهو ما يفتح الإمكانية لأن يكون شعره شاهدا جماليا/ثقافيا على هذه الفترة المهمة في تاريخ الثقافة العربية، وأن يكون هو نفسه أحد صناع اللحظة على المستويين الثقافي والسياسي. وقال: "من الملاحظ أن الشعراء الثلاثة يتفقون في تنوع مشاربهم الثقافية وتعددها، بما أتاح لهم فهما خاصا ومركبا لمفهوم الآخر، وهو ما تعرض له البحث قبل تناول إبداع كل شاعر منهم، هذا التنوع في المشارب منحهم قدرة استثنائية بالنسبة لشروط لحظاتهم التاريخية، فاستطاعوا، إلى حد كبير، تجنب اختزال الآخر بصورة تفقده قيمته العميقة كأحد مكونات الذات". قبل التعرض بالتحليل لتفاصيل الشعر بما يميزه من تداخلات جمالية وفكرية وثقافية، توقف د. بكر "عند مفهوم "الآخر" نفسه بوصفه مفهوما متعدد الأبعاد، لا يقبل الاختزال في فكرة تبسيطية واحدة؛ كأن نرى في الآخر وجودا منفصلا عن الذات الثقافية وربما معاديا لها، أو نقيضا أو مناوئا، إلى غير ذلك من الأوصاف الأحادية التي لا تفيد غالبا سوى تسطيح الوجود الإنساني ونفي تعقيداته الثرية". وحاول بكر في الفصل التمهيدي للدراسة أن يستظهر مفهوم الآخر ثقافيًّا، ورأى في ذلك سعيا إلى مناقشة قضية أظنها من أهم ما يعرض للوعي العربي حاليا، وهي قضية حضور الآخر كجزء مكون للذات، بما ينفي فكرة انفصاله، أو بعبارة أخرى؛ بما ينفي فكرة وجود الآخر هناك في مساحة من الفراغ يمكن الإشارة إليها دون أن نشير في اللحظة نفسها للذات بالمعنى الثقافي، وهو ما يمنح الذات فرصة الانعكاس النقدي على نفسها، كخطوة أولى وضرورية لتعميق المشاركة في الحضارة الإنسانية. قسم د. أيمن بكر الدراسة بعد التمهيد إلى ثلاثة فصول تتناول الشعراء الثلاثة (المتنبي – شوقي – العريض) بالترتيب؛ فتناول في الفصل الأول "الآخر في شعر المتنبي"، متوقفا عند علاقة الذات والآخر، في ظل مفهوم "المواطنة فوق القومية" الذي أسسته الحضارة العربية الإسلامية خلال الدولة العباسية، ومحللا بعد ذلك تشكلات الآخر الداخلي والخارجي في شعر المتنبي من زوايا مختلفة هي: 1- الأماكن وقيمتها الشعورية والسياسية؛ بوصفها تشكِّل خارطة للوطن الكبير، الذي كان المتنبي مهموما بالحفاظ عليه من التفتت. 2- صورة الآخر الخارجي في فترة مدِّ الحضارة العربية، وتفوق الدولة العباسية الثقافي والإنساني. 3- الآخر الداخلي في مديح المتنبي وهجائه، وكيف شكلت الأنساق الثقافية في الدولة العباسية، ذات الثقافات التنوعة والمنصهرة معا، أرضيةً صلبة تمنح المشروعية للمديح وللهجاء كليهما. أما الفصل الثاني فعرض فيه للآخر في شعر أحمد شوقي، متوقفا في البداية عند تغير منطق العلاقة بين الشرق والغرب الأوروبي في ظل الفترة الاستعمارية، عما كان عليه الأمر في عصر المتنبي، متعرضا بعد ذلك لكل من: مفهوم الشعر لدى شوقي، وطريقته في النظر للعالم، وتأثير هذين العاملين على تشكيل صورة الآخر في شعر شوقي، وعلى مواقفه تجاه ذلك الآخر. ثم يقف الفصل عند الدور الثقافي الذي لعبه شوقي تجاه حضارته الساعية للنهوض، وكيف لعب الشاعر دور العين التي ترى الآخر فتُعجبُ أو تَزْوَرُّ، وتحاول نقل ما تراه، لنخب الثقافة العربية وجمهورها، سواء ما يتصل بالمدن أو بالأعلام الغربية والشرقية في شتى المجالات، أو ما يتصل بالمخترعات الحديثة المبهرة آنذاك؛ كالطائرة والغواصة، إضافة إلى ما تأثر به ونقله إلى العربية من أشكال الأدب الغربي؛ كالمسرحية الشعرية. وتناول بكر في الفصل الثالث الآخر في إبداع الشاعر البحريني الكبير "إبراهيم العريض"، ملقيا الضوء على سيرته الثقافية التي سمحت بتكون بناء معرفي استثنائي؛ نتج عن الجمع بين أهم ثقافات العالم منذ نعومة أظفار الشاعر في هذا الوقت (بدايات القرن العشرين)، ثم كيف أثر هذا التعدد الثقافي، على استيعاب الآخر كجزء مكون للذات، وهو ما جعل تفاعل العريض مع تراث الآخر وإبداعاته الأدبية والفنية يتسم بدرجة كبيرة من العمق، نتيجة المزج الذي يقدمه الشاعر بين مكونات الذات الثقافية ومكونات الآخر، بما يجاوز مرحلة التعرف والانهمام بتقديم صورة عن ذلك الآخر المجهول للثقافة العربية، إلى النفاذ للقيمة الإنسانية التي مثلت أحد أهم أهداف شعر العريض. وكذلك ناقش الفصل كيف أثر هذا التعدد الثقافي على الدور العضوي المؤثر، الذي لعبه العريض في الحياة الثقافية والسياسية لوطنه البحرين، وكيف تشكلت مواقفه، المدافعة عن الحقوق العربية في مواجهة الآخر، بصورة اختيارية واعية، في ظل وجود خيارات كثيرة أمامه في هذا الوقت. وأنهي د. بكر الفصل الخاص بإبراهيم العريض مشيرا إلى العلاقة القوية التي تربطه بكل من المتنبي وشوقي، وهي العلاقة التي كان العريض على وعي بها. وقال "هناك أكثر من رابط يجمع بين الشعراء الثلاثة؛ إذ كان كل منهم عَلَمَ أمته في الشعر، وكان كل منهم متعدد الثقافات متنوع المشارب المعرفية، كما كان الأحدث منهم معجبا بالأقدم. كان شوقي معجبا بالمتنبي، مستلهما لكثير من معانيه، وهو ما دعى أكثر من باحث لعقد مقارنة بينهما. وكذلك كان العريض مفتونا بالمتنبي معجبا بشوقي، وقد ألف كتابا عن المتنبي بعنوان "ألف عام على فن المتنبي"، وهو كتاب يراه البعض في أهمية كتاب الأستاذ محمود محمد شاكر "المتنبي". ومن جانبه ربط العريض بين المتنبي وشوقي في دراسته الرائدة "الشعر والفنون الجميلة"؛ حيث يناقش رمزية ألفاظ اللغة من جهات متنوعة، مدركا ما يسمى بالعلاقات السياقية، التي تؤثر في دلالة كل لفظ مفرد، بما يتيح لكل عمل إبداعي تركيبا دلاليا وشعوريا خاصا. يتناسب - في هذا السياق - البعد التاريخي لمفردات اللغة، وجنوح الشعراء لاستخدام مفردات بعينها، مع العرف اللغوي في عصر كل شاعر، لذلك يستشهد العريض بأبيات للمتنبي، رابطا بينها وبين شوقي، ولنتأمل هذا النص التحليلي لبيتين من شعر المتنبي: "الرأيُ قبل شجاعةِ الشُّجعانِ ** هو أولٌ وهي المحلُّ الثانِي فإذا هما اجتمعا لنَفْسٍ مِرَّةٍ ** بلغتْ من العلياءِ كلَّ مكانِ" وفي هذا البيت الأخير دليل حي على ما للألفاظ من مدلول تاريخي خاص، فإن معظم الكتب العصرية تستبدل بكلمة "مِرة" (بالكسر) - التي لا نشك في استعمال المتنبي إياها - كلمة "حرة" نزولا على رغبات العصر وحاجات أهله، على ما بين الكلمتين من بون شاسع يفرضه اختلاف العصرين، ولكنها "الحرية" التي يقول فيها شوقي: وللحرية الحمراء باب ** بكل يد مضرّجةٍ يُدقُّ تسوغ للأدباء مثل هذا التصرف في بيت المتنبي الخالد". وأضاف أن "الربط بين المتنبي وشوقي في النص السابق غير ظاهر، فهو مضمن بين السطور، ويمكن التعبير عنه كالآتي: إذا كان المتنبي، شاعر أمته، يستجيب للحظته التاريخية في اختياره لألفاظ قصائده، فإن شوقي، شاعر أمته في عصره، يلعب الدور نفسه بالاستجابة لحاجات الأمة التي تتمثل أكثر ما تتمثل في "الحرية". يتكرر الربط السابق بين المتنبي وشوقي في كتاب العريض النقدي، فنجده يربط بين قول المتنبي: سأطلبُ حقِّي بالقَنا ومَشَايـخٍ ** كأنهمُ من طولِ ما التَثَمُوا مردُ ثِقَالٌ إذا لاقَوا خِفَافٌ إذا دُعوا ** كثيرٌ إذا شدوا قليلٌ عُـــدُّوا وقول شوقي: نظرةٌ فابتسامةٌ فسلامٌ ** فكلامٌ فموعدٌ فلقاءُ من ناحية المقابلة بين الألفاظ، ومجانسة الكلمات من زاويتي الاشتقاق والدلالة، مشيرا إلى المبالغات التي تميز بها المتنبي وشوقي واشتراكهما في دقة الصياغة. وكما ربط الأستاذ العريض بين المتنبي وشوقي، كان من الطبيعي أن يجيء من يربط بين العريض وأسلافه من الشعراء الذين يمثل امتدادا لهم، وبالتحديد المتنبي وشوقي. ولعل بحثنا الحالي أن يكون قد اقترب من هذا الربط، عن طريق كشف التشابه بين طبيعة التكوين المعرفي المتنوع لكل شاعر من الشعراء الثلاثة، واتساع رؤيتهم، خاصة في التعامل مع الآخر، وكذلك الدور الرائد لكل منهم في لحظته التاريخية.   محمد الحمامصي

مشاركة :