يطلق هذا الكتاب للباحث والكاتبة السورية ميادة كيالي "المرأة والآلهة المؤنثة في حضارة وادي الرافدين" نداءً إلى المنظمات الحقوقية والنسوية العربية والشرقية للعمل على تكثيف الجهود للإضاءة على ماضي المرأة المشرق، وإعادة عملية تأويلية جديدة وحيادية لهذا التاريخ من أجل إعادة البناء وتصحيح المفاهيم لنهضة مجتمعات التخلف التي حُرمت من مشاركة بناءة للمرأة تحت شعارات عززتها مؤسسة ذكورية هيمنت حتى على النتاج الفكري وربطته بها كإحدى مميزاتها. وتدعو كيالي في كتابها الصادر عن دار مؤمنون بلاد حدود إلى إعادة النظر في مسلمات الخطيئة الأولى والنظرة الدونية للمرأة. كما يقترح البحث إعادة دراسة الأساطير ومقارنتها مع نصوص الأديان التوحيدية، في سبيل فهم أوسع وأعمق لمراحل تطور الوعي الإنساني، ومحاولة رسم فلسفة دينية جديدة نابعة من فصل كل ما هو دنيوي عما هو قدسي لتتضح حدود كل منهما فلا تختلط الأمور ويلوى عنق النصوص لتلائم فئة (أو أيديولوجيا) على حساب أخرى. وتشير إلى أن تغير مكانة المرأة ما بين حضارات العالم القديم حتى قيام الرسالات التوحيدية بحاجة لإعادة دراسة وتحليل لمعرفة وفهم هذا الترابط ما بين انحطاط مكانة المرأة اليوم، وسيطرة الذكور على المؤسسة الدينية، ومن ورائها السلطة والحكم، إذ إن دراسة حقب المشرعين والمصلحين من الملوك الذين بدأت معهم أولى الاصلاحات والتشريعات في التاريخ كفيل ٌبأن يعكس لنا الكيفية التي تم فيها استمداد السلطة والهيمنة من الآلهة. وحتى يتم فصل الاشتباك ما بين التشريع والاجتماع، أو بين ما هو ديني وما هو دنيوي، فإن الحاجة تغدو ضرورية لتشريعات مدنية تنصف النساء وتكرمهن، فالله لم يخلق الإنسان لكي يشقى، بل ليتمتع بحياة كريمة، وليكون صورة كاملة عن الإله بكل الخير والرحمة التي يمثلها، فالمرأة تحمل في أحشائها مولّد الحياة والرحمة، ولها الحق في أن تكون شريكة حقيقية في صياغة أشكال الحياة بمختلف وجوهها. وتؤكد كيالي أن النساء اللواتي استطعن، منذ فجر التاريخ، قيادة مجتمعاتهن لعقود من الزمان، وتم تخليدهن على مدى آلاف السنين وطُبعت لهن الأختام وأقيمت لهن التماثيل والمعابد والمسلات، وأقيمت لهنّ الصلوات وسُبّحت الإلهة في صورتهن، جديراتٌ اليوم بأن يُفسح لهن باب العمل والتحرر من قيود كبلت إبداعهن، وأسهمت في تهميش سيرتهن وتاريخههن، وكأنهن زخرفة لصورة التاريخ الملحمية بقيادة الذكر. فالمرأة الرافدينية قدمت صورة عن التعايش الحقيقي والتكامل الحقيقي بين المرأة والرجل، حين كانت هي وهو في موقع متساو من التأثير والقرار وامتلاك السلطة، والأمر الأهم هو أنه لا يمكن لأية عملية تحرر أن تحرز تقدماً إن لم تحقق فيها النساء من الاستقلالية المادية، بحيث تكون مقياساً للعمل وللعطاء الإنساني، وليس واجباً على الرجل يمنحه للمرأة كتنازل منها عن مكانتها الندية له، وتحولها إلى تابع بكل ما تعني هذه الكلمة من خضوع، واستلاب، وتفتت في الدور والوظيفة والتطلّع. وتقول إنه إلى عهد قريب، ظلت قصة آدم وحواء، كما روتها أسفار العهد القديم، تخيّم بظلالها على موروثنا الثقافي. وأسهمت، بشكلٍ أو بآخر، النظرةُ الدونية للمرأة في العهد القديم في تشكيل النظرة الكونية ككل تجاه هذا الكائن، وباتت صورة المرأة مرتبطة بالخطيئة الأولى، وهو ما تسلل عبر الأزمنة إلى الوجدان الجمعي للبشر والأفكار. وأضحى تقبّل هذه الصورة، وتبني رواية أحادية بشأنها أمراً يناقض التفكير العلمي، وقيم التحليل المعرفي، لا سيما بعد أن تم اكتشاف ألواح الإينوما إيليش في وادي الرافدين، ومن ثم فك رموز الكتابة المسمارية، وخروج ترجمات الأساطير كاكتشاف ثوري في تاريخ الإنثروبولوجيا أظهر للعالم أن العهد القديم ليس هو أقدم كتاب، وأزاح الستار عن تلك الحقبة التاريخية التي احتفظت بغموضها وأسرارها إلى مشارف القرن التاسع عشر. ورغم الكم الهائل من الآثار والنقوش والتماثيل والمعابد، فإن فك رموز الكتابة أخرج الصورة من الظلال إلى النور، وقدم خطوة نوعية في الدراسات الأنثروبولوجية أسهمت في فهم أوسع للتحولات التي طاولت أحوال المرأة وأدوارها عبر الأزمنة والعصور السالفة. وتضيف كيالي أن الأبحاث الأركيولوجية تؤكد أن عبادة الإلهة الأنثى قد انتشرت في العصر نيوليتي على نطاق واسع في مختلف بقاع العالم، ولكن اكتشاف لغز الكتابة المسمارية بيَّن تميزها في حضارات وادي الرافدين، فقد اكتمل في سومر الدين بعنصريه الأسطوري والطقوسي تعبيراً عن إيمان كامل بوجود آلهة وراء هذا الكون، ورسمت الأساطير المحاولات الحثيثة لإنسان الرافدين لتفسير الخلق والتكوين. وما يلفت الانتباه أن هذا الانسان أبدع في ذلك، وهذا لم يكن على صعيد الدين فحسب شمل حضارة متكاملة الأسس، إذ أبدع ما هو أهم، أي التدوين بعد أن اخترع الكتابة، فمنح التاريخ عمقاً، وأعطى سيرورته معنى. وبسبب ذلك، لا يمكن أن ندرس ظاهرة تاريخية أنثروبولوجية من غير أن ننطلق من وادي الرافدين، فالديني والمدني كانا معاً صورة واضحة لحضارة لم ينقصها شيء من التكامل، بدأت باكتشاف الزراعة، ومن ثمّ عبادة الإلهة الأنثى التي شكلت العينة الأكثر خصوبة لدراسة المجتمع الأبوي ونشوئه، فقد بينت الأبحاث ودراسة التاريخ أن هناك علاقة تبادلية ما بين جنس الإله وسيطرة الجنس المقابل له على الأرض، ولهذا فإن ما حصل من تبدّل على الأرض لا بد وأن يواكبه تغير وانزياح على مستوى المفاهيم والمعتقدات الدينية. وتلفت إلى أن الأسطورة البابلية مثّلت على نحو دقيق ما حصل من انقلاب على الإلهة الأم، مما ولّد سؤالاً عن المجتمع ما قبل بابل، وهل كان ينعم بسيادة المرأة، أو على الأقل بتسيدها، كما أصبح الحال عليه في عهد الإله الذكر، وهل الانقلاب الذكوري، الذي حدث على صعيد الآلهة كما صورته الأسطورة، لم يكن سوى صورة عن انقلاب آخر على الأرض طاول المجتمع الأمومي وترك آثاره على الأسطورة البابلية، فخرجت تمجّد الذكورة في شخص الإله مردوخ وتفرده، وترسي وتؤسس لعنف بات هو الطابع الغالب على كل حضارات المجتمع البطريركي التي تلت؟ في الإينوما إيليش سيناريو أسطوري قدّم صورة للآلهة تنبع من واقع حقيقي على الأرض عاشته المرأة وعاشه الرجل، هذا الواقع فرضته الظروف التاريخية بمناخاتها وتداعيات متغيرات الاقتصاد والتراكم المعرفي والتبادل الثقافي، فالهجرات العديدة التي اكتسحت وادي الرافدين مزجت ما بين المزارع والصياد، وأدت الفتوحات إلى صعود الرجل المحارب وتوليه القيادة بكل قوة وحزم، ونشأت الحاجة للتقويم والإصلاحات، فنسب لنفسه تفويضاً إلهيا، وسنّ قوانينه بتأييد الإله، بعد أن أعاد استنساخ الأسطورة القديمة السومرية بحلّة بابلية تناسب مقاسه، مثَّلت فيها الإلهة الأنثى السكون والفوضى والطبيعة، ومثّل فيها الإله الذكر الحركة المتجددة والتنظيم والثقافة، وكانت بينهما الحرب الأولى في التاريخ، بعد حادثة القتل الأولى التي رفضتها الإلهة العظمى "تيامت" بسؤالها التاريخي المؤسس: "كيف يمكننا السماح بزوال ما خلقناه"، وكأن الذكر مبتدأ العنف والأنثى الحامية للحياة. تنتهج كيالي في كتابها المنهج الوصفي التاريخي، بحيث يقوم بتركيز عدسة مكبرة على بعض الأحداث التي دونتها الرُقم الطينية وخلدتها المسلات وبوابات المعابد وجدرانها، وخلدتها جدران الكهوف منذ أكثر من عشرين ألف سنة، ليقوم بقراءتها وتحليلها، وبالتالي تقديم تساؤلات جديدة تسهم في مساعدة المرأة على نفض غبار قرون طويلة من الإيمان العميق بخروجها من الضلع وتخصصها بالغواية وحصرها فقط في الأمومة، مُعيداً طرح السؤال بصيغ متعددة: "لماذا تحولت المرأة من إلهة في السماء ورئيسة القداسة على الأرض لتكون الشيطان المتخفي بالجلد الناعم ليمنع الرجل من الخلود"؟ وتقرأ وتحلل عبر فصوله الخمسة ملامح قصية من حقب تاريخية نائية زمنياً، من أجل استجلاء صورة المرأة، والتحولات التي طرأت عليها، بحيث أزاحتها عن عرش التمركز والسلطة والألوهية، وحصرت مهمتها في أدوار لا ترقى إلى تطلعاتها، ولا تتناسب مع مواهبها العظيمة التي تفوقت فيها على الرجل، كما أثبتت الدلائل التي تندّ عن الحصر. وتلاحظ كيالي أن ما يسمى "الانقلاب الذكوري" الذي أطاح بالألوهة المؤنثة حدث بالتزامن مع نشوء المؤسسة الدينية التي انبثقت بسبب وصول المجموعات النيوليتية إلى أعتاب التاريخ باقتصاد عال أمّن الوفرة وفائض الإنتاج، ما يعني أن تحولات الاجتماع مرتبطة بالاقتصاد وأشكاله وأنماطه، وبالتالي ترتبط بما هو روحي وديني. وتدرك أن تراجع دور المرأة، عبر التآكلات التاريخية المتلاحقة، لم يكن بسبب طبيعة الدين، وإنما بسبب التأويل الذكوري للنصوص الدينية التي قيّدت المرأة، وعطّلت فعاليتها، ورسمت صورة نمطية عنها، وأعاقت مشاركتها الفاعلة في رسم ملامح المستقبل المنشود، خلافاً لما تفرضه قواعد الاجتماع البشري. وتقدم كيالي من خلال تتبع مسارات البحوث الأركيولوجية جملة من الاستنتاجات: أولها: إن ظهور تماثيل الإلهة الأنثى في أغلب مجتمعات العصور النيوليتية، بل وحتى تناثر وجودها على حدود الباليوليت الأعلى، كان مؤشراً على عبادة إلهة أنثى عظمى مثلت للإنسان صورة للعالم القدسي، وشكلت الأرضية الحقيقية لجملة مفاهيمه عن خلق الكون والآلهة والانسان، كما شكلت فيه المرأة سراً ارتبط بأسرار الخلق وحمل هالة من القداسة والتقدير. ثانيا: خاضت المجتمعات الانسانية في وادي الرافدين رحلة طويلة نحو الاستقرار بدأت مع تدجين الحيوانات واكتشاف الزراعة، وترافقت مع مظاهر عبادة الإلهة الأنثى، وأسست لاستقرار الإنسان والبدء ببناء المدن الأولى، وكانت المرأة الحاضن الأول لكيان الأسرة والمنتج المساهم والمسؤول عن تلك الثورة الكبرى، وهذا ما أكدته تماثيل الفينوسات التي ربطت بين دورة الخصب والنماء وبين الخصب والولادة عند المرأة وكونها الفاعل الأول في دورة النمو. وكان إدراك دور الذكر غائباً في عملية التناسل، ما ساهم في تشكل مجتمع أموي ترتبط أنسابه بالمرأة. ثالثا: مع بدايات العصر الكالكوليتي، توطدت الزراعة ودُجنِّت الحيوانات، ومن هذا التدجين تعرّف الرجل إلى دوره في التخصيب وفهم قوة ذكر الحيوانات الاغتصابية في الغريزة الحيوانية، فعمل على الاستفادة منها كعنصر قوة يساعده على إخضاع المرأة، ومع اكتشاف المعادن وتصنيع الأدوات المستخدمة في الصيد والزراعة، استطاع الرجل السيطرة على العملية الإنتاجية، وساهم تراكم الفائض، وبدء ظهور الفوارق الطبقية، والنزوع للملكية الفردية، في إعادة التفكير في النسب الأمومي، وبدأت مظاهر الانقلاب الذكوري وتشكل النظام الأبوي، فكانت قوننة الزواج والتأكيد على طهورية الزوجة كضمان للنسب الأبوي، وعززت مكانة الأمومة ومنحت الحظ الأكبر من العناية والحماية، وسنت القوانين لصالح الأب كممثل للملك وممثل للإله، في وقت تعاظمت فيه الحروب والتوسع العسكري والامبراطوريات، ما أسهم في ظهور التشريعات لتقونن ليس فقط الزواج وتحده، بل لتقونن خدمات المرأة الجنسية، فتتحول من كائن له كل الحقوق إلى شيء يمكن امتلاكه كأية مقتنيات أخرى. رابعا: ترافق الانقلاب الذكوري على المجتمع الأمومي وتراجع مكانة المرأة، بانقلاب ذكوري على مستوى الآلهة، فبعد أن كان بانثيون الآلهة يمثل ديمقراطية تعددية وبمكانة متفردة للإلهة العظمى، بدأ ظهور الإله الابن ومن ثم بدأ ظهور الإله الأب جنباً إلى جنب مع الإلهة الأم، إلى أن تمت الإطاحة بها أمام تعاظم وتفريد الإله الذكر، مع احتفاظ الإلهة إنانا بما بقي من هالة الأم العظمى لتكون إلهة الحب والخصب. خامسا: رغم الانقلاب الذكوري على رمزية الإلهة، تمكنت المرأة من الاحتفاظ بمكانة عالية في حضارات وادي الرافدين من خلال المكانة الدينية التي تكاملت مع رمزية الإلهة إنانا وتجذر عبادتها في ضمير الانسان، وهذا ما برر استئثار الملوك بوهب بناتهم للكهانة كجزء من الدهاء السياسي وتثبيت الحكم، فالكاهنة العظمى هي المرشحة للزواج من الملك، وبذلك يتم ضمان ولاء الممالك من خلال زيجات دبلوماسية واسعة. سادسا: تركت لنا حضارة الرافدين كنوزاً آثارية من الجداريات والنقوش واللقى والأختام تحفل بأسماء الملكات وتواقيعهن وأسماء الكاهنات وحتى الكاتبات والمغنيات، ما يعكس تمايزاً واضحاً للمرأة في تسلمها مقاليد الحكم والتحكم بالتجارة وإدارة المعابد والأعمال الدينية الكبرى من تنجيم وعرافة، وطبابة وقضاء، وخُلدت على الجداريات وعلى المسلات وعلى الأختام. وتركت لنا نصوص التشريع براهين، لا جدال فيها، على أن المرأة في بلاد الرافدين حصلت على حقوق لم تحصل عليها في سواد مجتمعات معاصرة الآن وفي ظل كل السعي للتشريع المنصف والمطالبة بالإصلاح. المرأة، آنذاك، كان من حقها التملك وإدارة التجارة، ومن حقها منح الحرية لأبنائها من زوج عبد مملوك، ومن حقها أن تقود دفة الحكم، وأن تكون الحامية للدين وللمعبد، وأن تقرر مصير البلاد. محمد الحمامصي
مشاركة :