ميادة كيالي : السرديّة الذكوريّة جعلت من الرّجل مركز الكون وباني الحضارة، ومصدر الإلهام

  • 10/19/2020
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

القسم الثاني حاورها : كه يلان محمد * يبدو مما تقدمينه في كتابكِ “هندسة الهيمنة على النساء”؛ أنّ عملية سنّ القوانين في حضارة وادي الرافدين وتدشين الإصلاحات في المنظومة المجتمعية قد أقصت المرأة إلى الهامش، فيما لم تنتزع الحضارة الفرعونية النفحات القدسية من الأنثى؛ إلى ماذا يُعزى الاختلاف في موقع المرأة بسيرورة حضارتين؟ من خلال البحث؛ تبيّن لي وجه التشابه بين حضارتَي سومر والحضارة الفرعونية، وتمايزهما في سيرورتهما عن باقي حضارات الرافدين، وهذا يعود في الحقيقة إلى دور الإلهة الأنثى التي احتفظت بمكانتها في كلتا الحضارتين، وحضورها القدسي وإيمان المجتمع بأنّها الإلهة الحامية للكون والمقدسة (إنانا في سومر وإيزيس في الحضارة الفرعونية)؛ لذلك فلا عجب اليوم من التقابل بين مكانة الرجل وسلطته المطلقة في المجتمعات البطريركية، ومفهوم الإله الواحد المذكر. لقد بقيت إنانا هي إلهة المكان والزمان والإنسان، ترعى كلّ شيء على الأرض، وممثلتها على الأرض الكاهنة العظمى التي تتسيّد المؤسسة الدينية، وتشارك في مراسم وطقوس الزواج المقدّس، الذي يماثل ويحاكي دور النماء وطقوس الخصب في الطبيعة، ويحثّها على النمو والازدهار من خلال محاكاة الشبيه الذي ينتج شبيهه، التي تحدث عنها وفسّرها السير جميس فريزر، العالم الأسكتلندي في كتابه “الغصن الذهبي”، وأيضاً الإلهة إيزيس، التي احتفظت بمكانة عالية في الميثولوجيا المصرية، ساهمت في أن تبقى الملكة زوجة الفرعون، والتي تحمل الدماء النقية، دماء الآلهة، التي تحمل إرث “إيزيس” من العظمة والمكانة الرفيعة؛ لذلك بقيت المرأة المصرية تحظى بحقوق وامتيازات، كما المرأة السومرية، أعلى وأهم من مثيلاتها في الحضارتَين البابلية والآشورية، اللتين اتجهتا للتشديد على المرأة، وظهر فيهما المجتمع الأبوي بوضوح، وخضعت المرأة، وتلاشى حضور الإلهة تماماً مع ظهور الإله الذكر وتفرّده، وتسيّده المشهد، بل وبدأت شيطنة المرأة والتحكم بجنسانيتها منذ ذلك الحين. * أسبغ التكوين الجسدي قدسية على الأنثى، وكانت المرأة مصدراً للعطاء والهبة في ذهنية الرجل، لكنّها تفقد هذا الموقع لاحقاً؛ ما هي العوامل المؤثرة في تحجيم دور المرأة؟ شكّل جسد المرأة لغزاً في مخيال الإنسان منذ آلاف السنين، وهذا ما أخبرتنا عنه تماثيل “الفينوسات”، التي تعود إلى “الباليوليت الأعلى”؛ أي ما بين 40,000 قبل الميلاد و10,000 قبل الميلاد تقريباً، وهي تماثيل تمثل نساء عاريات في تجسيم لبعض من تفاصيلهن، مثل الثديين والوركين والمعدة ومناطق العانة، بشكل مبالغ فيه، في حين أنَّ هناك خصائص أخرى غائبة؛ كملامح الوجه والأقدام واليدين، واللافت أنّ تلك التماثيل التي انتشرت حتى أعتاب “النيوليت” بدأت تفسح المجال بالقرب منها لظهور تماثيل للذكر وللأعضاء الذكرية، ولاحقاً، في “الكالكوليت”، انتشرت المعابد المتدرجة، “الزقورات” و”المسلات”، والتي كلّها تعكس المجتمع الأبوي، أما السبب؛ فهو أنّ الطفل عند الإنسان لا يستطيع أن ينفصل عن أمّه بعد الولادة، ويبقى متعلقاً بها ويتغذى منها؛ لذلك شكّلت بالنسبة إليه مصدر الخلق والرعاية والأمان، وربط بينها وبين القمر في تغيّر جسدها من حالة لحالة، وطمثها، وحملها، وولادتها، كلّ ذلك جعلها شبيهة الإلهة العظمى المسؤولة عن الكون، إلى أن حصل تدجين الحيوانات، ومن خلال مراقبة الحيوانات اكتشف الرجل دوره في الإنجاب، واكتشف الاغتصاب، وحدثت الثورة الصناعية الأولى فكانت مرحلة تطورية غيّرت عجلة الاقتصاد، وساهمت في نموه وتراكم الثروات، فكانت البداية بسنّ الزواج الأحادي لنقل النسب للأب من جهة، والاستغناء عن الزواج الخارجي، الذي كان معتمَداً في المجتمعات الأمومية، بذلك كفل الرجل طهورية النسب وانتقال الثروات عن طريقه وداخل القبيلة الواحدة، دون ذهابها خارجاً، كما كان يحصل في الزواج الخارجي، وأيضاً مع التوسّع وصعود الرجل المحارب، تمّ استعباد المرأة من خلال الحروب، كلّ ذلك ساهم في إحكام الهيمنة على المرأة وتحجيم أدوارها، وربطها بأدوارها البيولوجية، كحتمية لا مندوحة عنها، وما حصل على الأرض وجد له سرديته في الطقس الدّيني. * أين دور التحولات الاقتصادية ونشوء الملكية الخاصة في الأطوار التي مرّت بها العلاقة القائمة بين الرجل والمرأة؟ وهل كان للرؤية الدينية والطقوس الشعائرية دور على هذا الصعيد؟ شرحت في ردّي على السؤال السابق كيف ساهمت التحولات الاقتصادية وتراكم الثروات في بحث الرجل عن وسيلة تجعله يضمن انتقال الهيمنة والتحكم إلى جانبه، وهذا كان من خلال تقييد جنسانية المرأة، وأصبحت المرأة تصنّف بحسب خدماتها الجنسية، وكتابع للرجل؛ فهناك زوجة الرجل، وهناك أمَته، وهناك المرأة البغي الجاهزة لمتعته، ومن خلال قانون الحجاب الآشوري، تمّ إعطاء مؤشر عن تلك الخدمات، وتمييز المرأة بحسبها، والدين والطقوس، حين كان المجتمع أمومياً كانت تعمل لصالح المرأة، ومع الإلهة العظمى كان هناك مجمع آلهة، وبانثيون ديمقراطي متعدّد، وكانت المرأة تتمتع على الأرض بمكانة عالية وحقوق مميزة، لكن مع تفرّد الإله الذكر، تشيطنت المرأة، وسلبت حقوقها، وتمّ التحكّم بمصيرها، وصيغت الطقوس والشعائر لتزيد الخناق عليها، وشكّلت الآخرة واليوم الآخر مصدر خوفها الأول والأخير، كيف لا وقد صوّرتها الأدبيات الدينية والفقهية على أنّها وقود الجحيم. • تقولُ الباحثة التونسية، زهية جويرو: إنّ “أسلم طريق يسمح للنساء أن يدركن حقوقهنَّ في العدالة والمساواة هو داخل النصوص التأسيسية”؛ فما رأيكِ أنتِ بشأن تأنيث المسعى التأويلي للمعطيات والمفاهيم الدينية؟ قد أذهب إلى أبعد من ذلك، وأقول إنَّ علينا أن نتجاوز النصوص التأسيسية ونذهب للقانون المدني، لكن مع قناعتي بأنّنا ما نزال بعيدين عن هذا المقصد سنين ضوئية؛ حيث ما نزال نثور على مجرد تأويل داخل النصّ، ونختلف حتى على مفهوم النصوص التأسيسية. لكن لا بأس في أن نبقى نجتهد، ونطرق كلّ الأبواب، ونقرأ كل النصوص بعين تأويلية تحليلية، بما فيها النصوص التأسيسية، التي هي في النهاية نصوص معطاة للإنسان حتى يتدبّرها ويفكر فيها ويستخلص منها هناءه واستقراره وسِلمه وسلامه.

مشاركة :