ثقافة الفضائيات العربية بقلم: د. ياس خضير البياتي

  • 5/4/2017
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

إن ما نجده الآن عبر القنوات الفضائية العربية هو شيء جدير بأن نصفه بأنه (ثقافة مستعارة) حيث يجري استيراد المكوّن الثقافي الغربي الأميركي أو الأوروبي برمته.العرب د. ياس خضير البياتي [نُشر في 2017/05/04، العدد: 10622، ص(18)] شهد الوطن العربي أحداثا وتحديات مصيرية، لم يكن بمنأى عن تلك القفزة الاتصالية، فشهد بروزا لفضائيات راحت تنبت كالفطر وتتنوع على الصعد كافة: الملكية، الأهداف، التوجهات، التخصصات، آليات العمل، التوزع الجغرافي. ودون شك فأن الحديث عن ثقافة الفضائيات العربية، ترتبط بالعديد من الإشكاليات، فهناك أشكالية علاقة الإعلام نفسه بالسياسة والسياسيين من ناحية، وبما يسمى بالرأي العام من ناحية ثانية، وما ينتج عن ذلك من إشكالية كبرى تتجلى بالأثر الذي يمكن أن يحدثه تحالف السلطة والمال والإعلام على الحياة السياسية وعلى الإعلام. كما تبرز إشكالية أخرى مرتبطة بالتلفزيون نفسه كوسيلة لها آلياتها في العمل الإعلامي تستدعي الملحّ والآني والسريع والمثير والاستعراضي، والتأثيرات المتبادلة بين الإعلام والسياسة والاقتصاد، كتراجع الديمقراطية التمثيلية لصالح ديمقراطية الرأي، وتحوّل الاتصال إلى أيديولوجيا، وشيوع الإعلانات كظاهرة لاستقطاب الجمهور من خلال التبسيط والجذب والإثارة لدرجة التسطيح. وهناك الإشكالية المرتبطة بالجمهور نفسه، ثقافته ورؤيته وبيئته السياسية والاجتماعية، وقدرته على استيعاب الخطاب الإعلامي، وقدرة الإعلام على جذبه من خلال استثمار واقعه السياسي والاجتماعي من خلال التنفيس والتماثل والإسقاط. إن ما نجده الآن عبر القنوات الفضائية العربية هو شيء جدير بأن نصفه بأنه (ثقافة مستعارة) حيث يجري استيراد المكوّن الثقافي الغربي الأميركي أو الأوروبي برمته، ويغرس في قلب ثقافة أخرى لم تسهم في تكنولوجيا الصورة بأي شيء جدير بالذكر. وهكذا توجه الثقافة الغنائية والموسيقية المستعارة، مثلما توجه ثقافة العنف المستعارة إلى فئة مستهدفه خاصة من الجمهور، فئة المراهقين والشباب، فئة تتسم بالقابلية بالإيحاء والاستغراق في أحلام اليقظة، وانفتاح نحو عوالم الطموح والرغبة في تحقيق الذات، والبحث عن مثل عليا يجري التوحد معها فلا تجد أمامها سوى نموذج العنف الذي تبثه الأفلام أو نموذج الجنس الذي تطلقه الأغاني. وباختصار هناك صناعة ثقافية إعلامية لا تعتمد على المقاييس الفنية والجمالية بقدر اعتمادها على الجذب والإثارة لتسطيح الفكر والحياة، وخلق الوعي المشوّه والمبسّط، وهدر الوقت وإضاعته، وإضعاف مشاركة الشباب المثمرة في النشاطات المختلفة. وعلى الرغم من الاختلاف بين المحطات الفضائية العربية وغير العربية على صعيد انتقائها لبرامجها وبالتحديد لبرامج التسلية والترفيه، إلا أن الثقافة التي تشيعها هذه الأخيرة خصوصا ومحطات التلفزة العربية عموما تقوم على مجموعة عناصر، من أبرزها: أن ثقافة اللحظة هي السائدة في فكر هذه الفضائيات، وهي تقوم بنسف التاريخ والهوية لصالح الاستهلاك والإثارة. ومنطق الشاشة اليوم هو العمل على ضغط الزمن قدر الإمكان، لأن زمن البث سعره مرتفع، وكلما تمكّنت من الضغط عليه كلما استقطبت الإعلانات. لذا نرى دائما الأحداث سريعة والإيقاعات سريعة وصور الفيديو كليب متلاطمة، والاتصالات سريعة. هناك أيضا ثقافة التشارط، حيث تهبط الثروة دون عناء. وطبيعي أن تغيب أمام هذه الثقافة ثقافة الجهد والنفس الطويل، وتلعب الحظوظ دورها بامتياز. لذلك يغلب الرخاء الذي نشاهده على الشاشة في الأفلام والمسلسلات. وأخطر ما في هذه الفضائيات أنها تحوّلت إلى مصنع للنجوم من مقدمين ومقدمات وإلى عارضات وإلى فنانين وفنانات ورجال سياسة ونجوم رياضة إلخ… وتتم صناعة الربح، أما نجومية الجهد والإنتاج والعلم فتقبع في مكانها المتواضع. وبغياب المشروع وبغياب حتى الممارسة الديمقراطية داخل البنية الإعلامية نفسها، نجد أنفسنا أمام ظاهرة إعلامية جديدة تمارس وظيفة الإلهاء المتزايد للمشاهدين. حيث البرامج السياسية ذات الطابع الانقسامي والصراعي من خلال إثارة النعرات الطائفية والقومية والعرقية والنزاعات المحلية والإقليمية وتثوير الرأي العام. وكذلك البرامج الترفيهية الساعية إلى تفكيك البنى الذهنية العصيّة على النفاذ من خلال العمل الناعم على تفجير السلوكيات وأنماط الحياة بما يتناسب ومتطلبات تعريف الإنتاج، عن طريق ربط المتعة بالحداثة والحداثة بالاستهلاك. وقد تمظهرت البعض من البرامج على شاشات الفضائيات العربية بطريقة تلفّها المفارقات وتصبح فيها المتناقضات بضغط من الثقافة والبيئة والظروف والإمكانات مثل تلفزيون الواقع وكذلك رسائل الـ”أس أم أس” التي تظهر في اسفل الشاشات على المحطات الترفيهية، وأغاني الفيديو كليب الإباحية وأنواع من المسلسلات والأفلام المدبلجة. والأخطر في الحياة العربية، موجة البرامج الدينية، وبالذات القنوات المتخصصة التي أصبحت بمثابة شرنقة لكل فئة، أي بمعناه دفع الإسلام نحو المزيد من الانكفاء وتضيق مسافته بشكل لا يقبل التنوع ولا الاختلاف، ولا حتى الرحمة والغفران، ولا مشاركة الفرق والطوائف في ما بينها على إغناء الفكر الإسلامي وجعله أكثر رحابة. بينما غلب على البرامج الإخبارية والحوارية الجانب الدعائي للأنظمة، والكوارث والحروب والقتل، بينما تراجعت الأخبار التي تمس حياة المواطنين العادية، وتختفي أخبار منظمات فإنها على العموم غير حيادية، وتقوم على تنافر الأضداد وعلى التمترس على أطراف الثنائيات مما يؤدي إلى تكريس الانقسامات السياسية والاجتماعية. بمعنى آخر، أصبح الإعلام الفضائي مساهماً أساسياً في تشكيل ملامح الجمهور وبالذات الشباب، بما يتلاءم مع التوصيف الذي تقدمت به مدرسة فرانكفورت للإنسان المعاصر (ذو بعد واحد، فاقد الهوية، صاحب نزعة استهلاكية، قليل الحساسية تجاه الغير، يعاني عزلة وضياعاً، أسير المرحلة الراهنة، والأمر الواقع، والتوقيت المخيف، والسرعة الفائقة، والوقائع السريعة الكفيلة بأن تُنسيه ما قبلها، وتتركه يتحفّز لما بعدها، أي تتركه يعيش في دوامة من النسيان والانبهار باللحظة الراهنة). وبمعنى آخر أصبحت الفضائيات العربية تعبّرعن ثقافة اليوم، وهي: الاحتفاء بالصورة على حساب الكلمة، وإحلال الإشباع العاطفي محل العقل، والولع بالانطباع بدلاً من الإقناع، والتخلّي عن المعنى لمصلحة اللعب والتسلية والعنف والكراهية. كاتب عراقيد. ياس خضير البياتي

مشاركة :