اقتنعت في النهاية أن الحل في جعل القلق والتركيز، أو الفوضى والترتيب يتعايشان جنبا إلى جنب، ويتمشيان اليد في اليد. أكثر من ذلك، كان يجب عليهما أن يتوحدا ويتماهيا تحت مسمى جديد: الفوضى المرتبة.العرب لمياء المقدم [نُشر في 2017/05/04، العدد: 10622، ص(21)] أنا من النوع الفوضوي، وهي حقيقة عرفها المقربون مني واستسلموا لها. الفوضى ليست خيارا أو أسلوب حياة، ولا أعرف في الحقيقة من أين تأتي الفوضى، ربما من قلوبنا المتعبة أو من أرواحنا المشوشة لكنها شيء خارج عن تحكمنا، وهي ليست في بعثرة الأشياء ومراكمة المسؤوليات وسوء توزيع الوقت والجهد، فهذه تجلياتها فقط. الفوضى في الداخل، في الريح التي تسكن أرواحنا، تضرب نوافذها، وتهز جدرانها. أقول لنفسي من باب التخفيف عنها: هو قلق المبدعين، ألم يقل المتنبي “على قلق كأن الريح تحتي”. فالكتابة والشعر والصحافة والترجمة أعمال تستدعي نوعا من القلق لإتمامها. قلق إيجابي إن صح التعبير، يدفع بمحرك الإبداع ويشحذ روح التفكير، لكن مهامي اليومية تتعدى هذا الجانب الصغير إلى مسؤوليات أخرى أكبر وأدق، كتربية الأولاد، وإدارة أمور بيتي، وتسيير مهامي المالية والتواصل مع الآخرين، وهي واجبات لا تقبل القلق أو الفوضى أو التراخي. هذا يعني أنني مطالبة بأن أكون بروحين وشخصيتين: روح قلقة من أجل الإبداع، وروح ساكنة مستقرة من أجل المهام الكثيرة الأخرى، أو أن أقسم وقتي إلى نصفين، وقت للقلق، ووقت للتركيز، وهو ما لا يمكن أن يحدث أبدا، فلا أحد بمقدوره أن يقسم أو يرتب أنفاسه وتحركات فكره وقلبه، ويعدل من إيقاع روحه وفق رغبته وميولاته. اقتنعت في النهاية أن الحل في جعل القلق والتركيز، أو الفوضى والترتيب يتعايشان جنبا إلى جنب، ويتمشيان اليد في اليد. أكثر من ذلك، كان يجب عليهما أن يتوحدا ويتماهيا تحت مسمى جديد: الفوضى المرتبة. دربت نفسي على اعتبار فوضاي جزءا مهما وثمينا مني، لكنه لا يخص سواي، وليس من حقي أن أضر به أحدا غيري، أو أن أجعل الآخرين يدفعون ثمن إبداعي. لا أسمح لنفسي أن أجلس للكتابة إلا بعد أن أنهي مهام الطفلين، ولا أكتب على حساب وقتهما أو نزهتهما أو الحديث معهما. تعلمت أيضا أن أقلق بطريقة مبتكرة فأصرف طاقة القلق في اتمام مشاغل البيت. إذا اشتد قلقي اشتدت حركتي في البيت متنقلة بين الغرف، أرتب وأنظف وأرفع الغبار وأمسح الشبابيك. الذين يعيشون معي يعرفون أن هذه الحركة القلقة في البيت هي في الحقيقة انعكاس للحركة الداخلية وأن صوت نفض الغبار من الأريكة هو صدى لصوت التفكير داخلي، وأن وقع قدمي على الأرض ليس إلا ظلا لتداعي الأفكار والأحاسيس التي تملؤني في تلك اللحظة. أنتهي من تنظيف البيت في وقت قياسي، أكون خلاله قد أنهيت قصيدة أو وضعت فكرة لمقال، أو خطة لجديد. أجمل ما يهبك الله أشخاص يعرفون كيف يقبلونك على حقيقتك وفوضاك، فلا يتعسفون عليك أو يحاولون كسر ذلك الهش القيم داخلك بحجة ترتيبك أو ترتيب حياتك. كلما فتحت حقيبتي في فندق ما، ووجدتها مرتبة بتلك الطريقة المحكمة، ووجدت أغراضي داخلها كاملة لا ينقصها شيء، قبلت، في مخيلتي، اليد التي رتبتها، فقد عرف الرجل الذي أحب أنني أحتاجه لمثل هذه المهام الدقيقة التي لا تملك روحي الصبر الكافي لإتمامها، فملأ الثغرة وأتم النقصان. صورته وهو يقرفص أمام حقيبتي يرتبها ويجهز أغراضها بتلك الدقة المفرطة والمحبة العالية لا تفارق مخيلتي. ومرة قال إنه كلما رتب أغراض حقيبتي تذكر والده الذي كان يرتب له أغراض حقيبته ليلتحق بالجامعة في المدينة البعيدة. نحن أبناء الحب، يبدو أننا نمتلئ بنقصان غيرنا، ونكتمل بفراغاته، أليس جميلا أن تأتي السعادة من حيث يأتي النقصان والمحبة من حيث يأتي الفقد؟ كاتبة من تونس مقيمة بهولندالمياء المقدم
مشاركة :