في محيط الجامعة شهدت مختلف أنواع العلاقات والنماذج الإنسانية من الجنسين، بعيداً عن الصور الذهنية النمطية، ومفاهيم الطبائع المطلقة، والماهيات الثابتة، والثنائيات المتفاصلة.. وبعيداً عن الأساطير المؤسسة للمرأة المثال والمرأة المكيدة، والمرأة المتلونة التي تتقلب في ساعة واحدة بين الفصول الأربعة: بين الإقبال والإدبار، وبين الانبساط والانقباض، وبين الفرح والاكتئاب، وبين رقة الفراشة وشراسة النمرة الضارية، وبين قر الشتاء وحر الصيف! وما على الشعراء لو مضوا في صناعة هذه الأساطير وإعادة إنتاجها؟ والأساطير على كل حال ليست بلا معنى، فهي تمثيل رمزي للواقع كما يتصوره الوعي الأسطوري، وعليه فهي تقول عن الوعي الذي ينشئها أكثر مما تقول عن موضوعها الخارجي. وهكذا فإن الأساطير الشعرية عن الأنثى لا تصف حقيقة المرأة بقدر ما تشي بأحوال الشعراء المتقلبة بين النرجسية الذكورية والانتصارات الموهومة وغير الموهومة والمخاوف والخيبات والانكسارات والرغبات المتحققة والمحبطة. ورب قائل يقول: لِمَ لم تصنع المرأة أساطيرها الشعرية عن الذكر والذكورة كما صنع الرجل عنها؟ ولم لم تنتج من الآداب والفنون عنه بقدر ما أنتج عنها؟ بلى، أوضح الأسباب تواطؤ الثقافة الذكورية المهيمنة على إسكات صوت المرأة وتغييب ذاتها وتشييئها واستحضارها بوصفها موضوعاً في المقام الأول. ولكني أعتقد أن هذا ليس السبب الوحيد، فحتى، حين تسترد صوتها، فإنها لا تنزع إلى أسطرة الذكورة. فالأسطرة قرين التنميط والتجريد وأوهام الكلام عن الطبيعة المتأصلة والماهية المطلقة. وهذه بدورها تتغذى بمطلق الرغبة التي لا تتقيد بالعواطف الحميمة تجاه فرد بعينه، وبقدر الارتهان لسلطة الرغبة تكون المخاوف منها وعليها، والرغبات والمخاوف هي منبع الأساطير، وكل ذلك ظاهرة ذكورية بامتياز. ولكن، مهلاً! فثمة تطور لافت حدث في الآونة الأخيرة، فإذا تمكن خطاب التحرر الجنسي ومراكز إنتاج الجسد في الغرب من حمل المرأة على استدخال مفهوم الرغبة المنطلقة كما هي عند الرجل، بدأنا نلحظ لأول مرة اتجاهاً وسائط الإعلام والإعلان ومراكز صناعة الصورة إلى تشييء الذكر بما هو جسد وموضوع للرغبة، ثم تسليع جسده على نحو تسليع المرأة! فنرى تلك الوسائط تمطرنا بصور الشباب يستعرضون أجسامهم الرياضية المثالية، ويرتدون من الملابس أو يخلعون منها، ما يبرز جاذبية السلعة الجسدية التي تروج لنفسها ولغيرها من السلع الموجهة إلى سوق النساء. وازدهرت حول هذا طائفة من صناعات الجسد الذكوري فضلاً عن الأنثوي: النوادي الرياضية، صناعات الأجهزة والثياب الرياضية، والمواد الصحية ومواد بناء الأجسام والعضلات.. وحتى المجلات الإباحية الموجهة لاستهلاك النساء، ومادتها أجسام الرجال الجذابة. وفجأة وجد الذكور أنفسهم يرزحون تحت ضغوط نفسية متواصلة؛ إذ يقارنون أجسامهم بتلك النماذج التي تعرضها وسائل الإعلام في كل حين. وربما أدى ذلك بالكثيرين منهم إلى الشعور بعدم الأمان وضعف الثقة باجتياز امتحان المواصفات والمعايير التي تجريه الأنثى لهم، وفقاً لتلك المراجع المثالية! أخيراً يستكمل الزمان دورته، فيكاد الذكر والأنثى أن يستويا مثلاً، ويصير الذكر كما المرأة، ويتجرع من الكأس المرة التي طالما شربت منها الإناث تحت وطأة الترويج الإعلامي التجاري للجسد الأنثوي المثالي غير الواقعي، كما يتمثل في أجسام عارضات الأزياء النحيلة، وملكات الجمال وفتيات الإعلان والممثلات الفاتنات! ولم يعد من غير المألوف أن تعلق الأنثى بإعجاب على الجمال الذكوري العابر دون أن يحمل ذلك أي دلالات عاطفية أو يطعن بالضرورة في وفائها لشريكها والتزامها الأخلاقي ونضجها العقلي. هل ينبغي أن يكون هذا التحول سبباً لاحتفال المرأة الساعية إلى المساواة؟! لا أعتقد أن المساواة في التسليع والتشييء انتصار لقضية المرأة. فالضحكة الأخيرة لمراكز تصنيع الرغبة والجسد التي وسعت سوقها لتشمل الجنسيين معاً! وهذه.. لا يزال يهيمن عليها الذكور. **** على الرغم من أن ظاهرة تسليع الجسد الذكوري تطور حديث، فإن ذلك لا يعني أن الذكر لم يكن قبل ذلك يتجمل للأنثى بمظهره، أو أن الأنثى لم تكن لتطلب الوسامة وحسن المنظر في الرجل. ولكن متطلبات المظهر الذكوري لم تكن لتقارن بمتطلبات المظهر الأنثوي، ومن ثم كانت الضغوط على الذكر في هذا المجال أقل بكثير من الضغوط على المرأة، فالثقافة السائدة تقرن الجمال والزينة بالنساء، بل إن مبالغة الرجل في تحسين منظره قد تنقلب عليه، فيظن به التشبه بالنساء والميوعة والتفاهة معاً، فالحكم الأول على الذكر مخبره لا مظهره! يكفي أن يكون مقبول الشكل ليطمئن على نفسه من هذا الباب. ولكن.. لا راحة للرجل!.. كما أنه لا راحة للمرأة! فإذا كانت الثقافة السائدة تسترخي مع الرجل في معايير المظهر، وتشتد مع الأنثى، فإنها في المقابل تشتد مع الرجل في معايير المخبر وتسترخي مع الأنثى بالمقارنة، وليس على الرجل أن يتجمل للمرأة بمظهره تجملها له، ولكن يبقى عليه أن يتجمل لها بعقله وكرمه وشجاعته وشهامته ومروءته وأخلاق الفروسية، التي تختصر جميعها بمفهوم "الرجولة"، فعليه يقع عبء إثبات قيمته بهذه المعايير، وإنه لعبء ثقيل! وإذا كان جمال المظهر منحة إلهية في المقام الأول، فإن تلك القيم المشيدة للرجولة - حسب الثقافة السائدة - تنسب مسؤولية حضورها أو غيابها إلى شخصية الرجل نفسه، ثم إن الجمال الحسي يعلن عن نفسه، ولا مجال للادعاء فيه، أما جمال المخبر الرجولي فيمكن فيه الادعاء والتظاهر والتكلف والكذب، ولو إلى حين، حتى يصدقه الاختبار أو يكذبه! وهذا بعض ما شهدته حقاً في العلاقات بين الجنسين في أثناء دراستي في الجامعة الأردنية، رأيت الفتيات أقل تظاهراً وادعاء واستعراضاً وتكلفاً، وأكثر واقعية وقرباً من الأرض في الإفصاح عن شخصياتهن وفي التعبير عن أنفسهم. ورأيت الكثير من الذكور - في المقابل - يكدحون في تزيين أنفسهم للفتيات بادعاءات الثقافة والمواهب الإبداعية والشجاعة والقوة الجسدية والمعنوية والمواهب القيادية والنضال الوطني، وحتى القلق الوجودي والتأمل الفلسفي وشقاء الوعي المتوقد، وأحزان الشاعر الحساس!! أما تجربة السجن في قضية سياسية وطنية فتلك قيمة كبرى مضافة، تقدم بين يدي المناضل العتيد عند الأنثى المنشودة. وهكذا يمكن أن تتخفى المغازلة بالكلام الفلسفي والسياسي والأدبي، ويمكن أن يكون الكتاب الذي يحمله الطالب بيده جزءاً من عدة الاستعراض، كما يستعرض الطاووس ريشه والعيون المرتسمة عليه في سياق تنافسه على الأنثى! لا أقصد التعميم بهذا، ولا أنتقص من إخلاص المخلصين وصدق الصادقين والتزام الملتزمين واجتهاد المجتهدين حقاً وصدقاً في الأمور الوطنية والثقافية والإبداعية في محيط الجامعة في ذلك الحين، ولقد تختلط الغايات فيكون عند الإنسان من هذا وذاك. وقديماً امتزجت الفروسية بالغزل، وربما صاح الفارس باسم حبيبته إذ يقبل على الحرب، وربما رفع منديلها قبل المبارزة في أوروبا العصور الوسطى، وربما ساح في البلاد محارباً باسمها! وربما أيضاً قتله الإقدام في سبيل إثارة إعجابها! وما أبرئ نفسي.. لا، لم أرَ الطالبات بصورة عامة ينزعن إلى هذا النوع من التجمل الاستعراضي بسمو الشخصية، ولا إلى التظاهر بما لم تكنه إحداهن، بل لم يكن مثل هذا ليغريهن طويلاً، وحتى لو كان حقاً وحقيقة فإن تلك الصفات الرفيعة في الشاب يمكن أن تثير الإعجاب، ولكنها لا تغني عن المتطلبات الواقعية في شريك العمر، حين يجد الجد ويقترب الحسم في مصير العلاقة. فما نفعها بعبقرية لا يعرف مآلها في سوق العمل والكسب، أو بشاعرية هائمة في سماء الكلمات، أو بقلق وجودي ليس تحته إلا الريح، أو بنضال سياسي ثوري محفوف بالمخاطر! كل ذلك لا ينشئ بيتاً آمناً وحياة مستقرة. ولذا كانت العلاقات العاطفية في الجامعة كثيرة، وما صمد منها حتى نهاية أعوام الدراسة قليل، وما أثمر زواجاً بعد الجامعة أقل، وما نجح من تلك الزيجات أندر! وفي جل الأحيان كانت الفتاة لا الفتى، من يتخذ القرار بإنهاء العلاقة! فأي الفريقين أقرب إلى الواقعية والعقلانية؟ وأين ما تدعيه أساطير الذكورة من أن المرأة أكثر انجرافاً وراء العواطف والأوهام؟! ورب قائل يقول: إن صح وصفك ذاك، فإنه دليل على أن المرأة أقل اهتماماً وانشغالاً بالقضايا العامة والمعاني العظيمة والغايات السامية! وهو وَهْم آخر، فلا الرجل يكتفي بالزواج من القضايا العامة ولا المرأة منصرفة عنها إلى مطلب الزواج وتدبر المعاش، والزواج على كل حال، ليس مسألة هامشية عند الجنسين على السواء، وليس على أحد أن يختار بين العام والخاص، ولكن، لكل أشراطه، ولا تغني أشراط أحدهما عن أشراط الآخر. وقد شهدت في فتيات الجامعة مختلف النماذج والأنماط: الذكية اللامعة، والمتوسطة الذكاء، ومن هي دون ذلك؛ الناشطة في العمل الوطني والسياسي التي تبذل دون ضجيج أو معه، والمنصرفة عن هذا كله؛ المثقفة القارئة والبسيطة الساذجة، قوية الشخصية وضعيفة الشخصية، اللطيفة والعدوانية، المتواضعة والمتكبرة.. ولقد تحضرني هنا حادثة طريفة وقعت معي. كنت في السنة الثالثة، وكنت زعيم الحركة الطلابية في الجامعة والضفتين تحت مظلة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية، كما كنت معروفاً في الأوساط الأدبية والثقافية في الأردن وخارجها من خلال إسهاماتي المنشورة، بل كنت أيضاً عضواً في الهيئة الإدارية لاتحاد الكتاب الفلسطينيين. كل ذلك يدعو إلى الاعتداد بالنفس، إن لم يكن الغرور! جاءني أحد الزملاء وأخبرني أن له قريبة تدرس الأدب الإنكليزي في الجامعة الأميركية في بيروت، وأنها فتاة مهتمة بالأدب والثقافة، وأنها في إجازة في عمان، وقد سمعت بي وقرأت بعض نصوصي، وتحب أن تلتقيني إذا رغبت في ذلك، لقاء تعارف وحوار في اهتماماتنا الثقافية المشتركة، وافقت مرحباً وضربت لذلك موعداً في حرم الجامعة. ذهبت إلى اللقاء مرفوع القامة متهيئاً لاستعراض ثقافي مدهش وقد ارتسم المشهد المقبل في خاطري مسبقاً، لن تمضي بضع دقائق على بدء الحوار حتى أكون قد بهرتها عن نفسها وعصفت بعقلها وأفكارها عصفاً جميلاً، لتعلم أن العيان أعظم من الخبر وإن كان الخبر معجباً، وأن رؤية المعيدي خير من السماع به، وإن كانت السمعة شديدة الحسن! والتقينا أخيراً، كانت فتاة نحيلة رقيقة هادئة الملامح، حتى كدت أشفق عليها لأول وهلة، وبالفعل، لم تمضِ دقائق حتى وقعت الدهشة، بل الصدمة. ولكن، بخلاف النص المتخيل في ذهني، لم أكن أنا مصدر الإدهاش والإبهار، إنما كانت هي! لم أعرف حتى ذلك الحين فتى ولا فتاة في مثل ثقافتها الواسعة العميقة، فكلما تزينت لها باسم شاعر أو أديب أجنبي، أو استشهدت بشيء من نصوصه، جاءتني بخبره وخبر نصوصه كلها، وما كنت قد قرأته مترجماً، كانت قد قرأته في نصه الأصيل باللغة الإنكليزية، ومعه ما دار حوله من دراسات وآراء نقدية، وما أحاط به من ظروف عامة وخاصة، ومكانه في التيارات الأدبية، وقد يحيل الكلام عنه إلى كتاب آخرين، سمعت ببعضهم ولم أسمع بالآخر. وكانت تتحدث بعفوية ودون تكلف أو ادعاء، ووجدتني أكدح لأجاريها، فسمعتي التي سبقتني إليها على المحك، فلأوازن ما تعرفه ولا أعرفه، بما أعرفه ولا تعرفه. وكان جل معرفتها بالآداب الأجنبية، فاستدعيت أدباء العربية وكتابها عبر التاريخ لمساعدتي: السياب، صلاح عبد الصبور، أحمد عبد المعطي حجازي، أدونيس.. و.. نعم: شعراء المقاومة: محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد، وكانوا قد اشتهروا في ذلك الحين وانشغل الناس بهم، كذلك نجيب محفوظ وقبله طه حسين والعقاد والحكيم، فإن كان هؤلاء أدنى إلى أن يعرفوا فلأضرب في عمق التاريخ ميمماً شطر الجاحظ والتوحيدي والمتنبي وأبي العلاء، ولأقف على الأطلال مع امرئ القيس وطرفة، ولأتصعلك مع الشنفرى وعروة بن الورد وتأبط شراً! ولأتصوف مع ابن الفارض وابن عربي والحلّاج! وأخيراً، لماذا أذهب بعيداً إلى غيري وأنسى نفسي؟! الفتاة مثقفة وباحثة وناقدة، ولكنها ليست أديبة، فلأقدم لنفسي بإنتاجي الأدبي، ولها أن تبدع في قراءته وتحليله! باختصار عدت من اللقاء أكثر تواضعاً وكل رجائي أن أكون قد خرجت من امتحانه كفافاً لا عليَّ ولا لي! لم أرَ تلك الفتاة الرائعة بعد ذلك، ولا أعلم أين هي من الأرض، وأعجب أني لم أسمع بها على تطاول الأيام في الأوساط الثقافية والأكاديمية، ومن يدري لعل التقصير في هذا مني! **** تلك تأملات فكرية في كتاب الأنوثة والذكورة، تداعت من الوقوف على ذكرى اللقاء الأول المباشر مع الأنثى في حرم الجامعة، في زمن كان فيه هذا التحول أشبه باكتشاف أرض جديدة تعد بقدر ما تنذر، وقد تمنحك من فرح الحياة ولو إلى حين، وقد تخلفك كسير القلب ليس في يدك إلا قبض الريح، ولكن، بعيداً عن التأملات الفكرية العامة، ما الذي اختبرته في تلك الأرض الجديدة على الصعيد الشخصي؟ هل كان البرق الذي لاح في أفقها البعيد بشيراً بغيث يروي من عطش قديم، أم أنه لم يكن غير برق خلّب يعشي الأبصار ولا يعقبه إلا الريح والغبار! ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.الكاتب والسيناريست الكبير وليد سيف يكتب لهاف بوست عربي: بين كتاب الدرس وكتاب الأنثى "3"| الأساطير الشعرية عن الأنثى
مشاركة :