غداً الأحد، سنكون أمام فرنسا جديدة تبحث عن مكان لها تحت الشمس بعيداً عن أحلام العظمة وأوهامها. سيكون الخيار أمام الفرنسيين واضحاً. سيكون هذا الخيار بين مارين لو بن وايمانويل ماكرون، بين البقاء في أوروبا والخروج منها، بين شخصين لا ينتميان الى أيّ حزب كبير. لم يعد من وجود للديغولية ولا للحزب الاشتراكي ولا لليسار الموحّد الذي كان يضمّ في مرحلة معيّنة الاشتراكيين والشيوعيين، إضافة الى أحزاب صغيرة أخرى.هناك بكلّ بساطة فرنسا جديدة سيترتب عليها البحث عن كيفية الاهتمام بشؤون الفرنسيين أولاً. هذا ما وعدت به مارين لوبن التي تفضّل العودة الى «الفرنك الفرنسي» بدل البقاء في منطقة «اليورو». هذا ما وعد به ماكرون أيضاً ولكن عبر مزيد من الانفتاح على أوروبا وعبر سياسة اقتصادية تقوم على الخروج من عباءة الحزب الاشتراكي الذي تكفل في عهد فرنسوا هولاند بجعل أصحاب الرساميل يهربون من فرنسا.فرنسا الأوروبية ذات الحدود المفتوحة على جيرانها... أم فرنسا المنطوية على نفسها التي تعتقد انّ العزلة ستتكفل بحمايتها من «الإسلام المتطرّف» الذي تستخدمه مارين لوبن من أجل اثارة الذعر وإثارة الغرائز البدائية في صفوف الفرنسيين واستجلاب أصواتهم؟سيختار الفرنسيون بين البقاء أوروبيين أو الخروج من أوروبا. ذلك هو العنوان الأبرز للدورة الثانية والأخيرة من الانتخابات الرئاسية الفرنسية. الأكيد أن هذا العنوان العريض يخفي عناوين أخرى لا تقلّ أهمّية عنه. أبرز هذه العناوين ما الذي أوصل فرنسا إلى ما وصلت اليه، أي إلى أن تأحذ حجمها الحقيقي على الساحة الدولية، وحتّى أوروبياً؟في العام 2017، يمكن القول إنّ مفعول شارل ديغول انتهى. لم يبق من هذا المفعول الديغولي سوى حاملة الطائرات التي تحمل اسمه، وهي الوحيدة التي تمتلكها فرنسا. إنّها قصة طويلة بدأت في العام 1956 وانتهت في 2017 بمفاجأة حلول شخص مجهول اسمه ايمانويل ماكرون أوّلاً في الدورة الاولى من الانتخابات الرئاسية. في خلال ثمانية اشهر، بنى ماكرون نفسه كمرشّح رئاسي جدّي. تعرّض منافسه الحقيقي فرنسوا فيّون لحملة شعواء أوصلته الى الدورة الأولى مدمّى. امّا الحزب الاشتراكي فوجد نفسه يتيما بعدما نجح فرنسوا هولاند في أن يكون بين اقلّ الرؤساء شعبية في تاريخ فرنسا الحديث.ما الذي حصل في 1956 وظهرت نتائجه في 2017؟بعد هزيمة ديين بيين فو في فيتنام في العام 1954، بدأت فرنسا تتراجع على الصعيد العالمي، لكنّها لم تدرك حقيقة حجم تراجعها إلّا بعد هزيمة حرب السويس في خريف العام 1956. كانت هناك مغامرة حرب السويس التي خاضتها مع بريطانيا وإسرائيل. لم تنته هذه المغامرة بهزيمة عسكرية مباشرة، بل برسالة أميركية تأمر فرنسا وبريطانيا وإسرائيل بالانسحاب من السويس وسيناء. كانت تلك الرسالة التي بعث بها الرئيس دوايت ايزنهاور، عبر اتصال أجراه وزير خارجيته جون فوستر دالس مع رئيس الوزراء البريطاني انتوني ايدن، إيذانا بأن العالم تغيّر وأن ما كان مقبولا قبل الحرب العالمية الثانية لم يعد مسموحاً به بعدها.دخل العالم، بعد انتهاء الحرب العالمية، مرحلة الحرب الباردة. صار خيار الدول بين المعسكر السوفياتي والمعسكر الأميركي. لا يمكن لمن هو في المعسكر الاميركي خوض حروب خاصة به قبل العودة إلى واشنطن. هذا ما فهمته بريطانيا جيّداً، لكن فرنسا التي وجدت نفسها في أزمة عميقة على كل المستويات حاولت الردّ على الموقف الاميركي بأن اتجهت أوروبيا. لم تلبث فرنسا ان سقطت في وحول الجزائر التي لم يخرجها منها غير شارل ديغول بشروطه القاسية التي تلائم مزاجه.كان من بين شروط ديغول دستور الجمهورية الخامسة الذي أقام «جمهورية ملكية» أو «ملكية جمهورية» على حدّ تعبير سياسيي تلك المرحلة الذين أدركوا ان الجنرال الذي قاد فرنسا في مواجهتها مع ألمانيا في أثناء الحرب العالمية الثانية يرفض كلّ ما هوس اقلّ من دستور على قياسه.كان جاك شيراك آخر ديغولي تولّى رئاسة الجمهورية في فرنسا، وهي جمهورية استطاعت تأمين سنوات طويلة من الرخاء والازدهار الاقتصادي سمح لفرنسا بأن تلعب دورا دوليا، حتّى في عز الحرب الباردة، وأن تكون لديها سياسة خاصة بها حتّى في افريقيا والشرق الاوسطس.لم يكن فرنسوا هولاند وراء الانهيار الفرنسي الذي أوصل الى الاستنجاد بايمانويل ماكرون لمواجهة احتمال سيطرة اليمين المتطرّف على قصر الاليزيه وإنقاذ ما يمكن انقاذه. الانهيار بدأ عملياً في عهد نيكولا ساركوزي الذي أدخل فرنسا في مساومات ذات طابع رخيص من بينها استقباله بشّار الأسد في باريس، خلال احتفالات ذكرى الثورة الفرنسية، في مرحلة ما بعد اغتيال رفيق الحريري. حصل ذلك في اطار صفقات غير بريئة، بعضها مع معمّر القذافي، معروفة أسبابها ودوافعها... وأهدافها.هبط ساركوزي بالسياسة الفرنسية الى الحضيض، خصوصا أنّ همّه كان محصوراً في الصفقات من جهة وتصفية الحسابات مع آخرين من بينهم جاك شيراك من جهة أخرى. جاء فرنسوا هولاند ليوجّه ضربة قاصمة للاقتصاد الفرنسي. لم يقض على الحزب الاشتراكي الذي ينتمي إليه فحسب، بل قضى أيضاً على الجمهورية الخامسة.من المتوقّع أن يكون ايمانويل رئيساً لفرنسا. صحيح أن مفاجأة من نوع انتصار مارين لوبن تظلّ واردة، خصوصاً أن لا حماسة كبيرة لدى الفرنسيين في التصدي لليمين المتطرّف، كما حصل في 2002 عندما خسر والدها جان ماري لوبن امام جاك شيراك بفارق كبير في الأصوات (82 في المئة مقابل 18 في المئة)، لكنّ الصحيح أيضاً فرنسيين كثيرين لن يدعوا فرصة ماكرون تمرّ بسهولة. تبقى هناك أكثرية مع المرشّح الذي كان في الماضي اشتراكياً ووزيرا في إحدى حكومات عهد هولاند. يعود ذلك الى أنّ ماكرون ما زال يمثّل الأمل. الأمل بالخروج من الوضع الاقتصادي المزري الذي يعاني منه البلد في وقت يبدو مستقبل الاتحاد الاوروبي كلّه على المحكّ.هناك أمران اكيدان بعد انتخابات الغد. الأوّل أن فرنسا ستكون في حاجة إلى إعادة النظر بدستورها الذي كان يلائم شخصيات مثل ديغول وجورج بومبيدو وفاليري جيسكار ديستان وفرنسوا ميتران وجاك شيراك. هؤلاء كانوا أقرب الى الملوك من الرؤساء. كان شيراك آخر هؤلاء الملوك.الأمر الأكيد الآخر هو أن فرنسا تقوم مع ماكرون بقفزة في المجهول، خصوصاً أن الرجل يستطيع قول الشيء وضدّه في اليوم ذاته.استطاعت فرنسا تكييف نفسها، وإن بصعوبة، مع مرحلة الحرب الباردة ثم انهيار الاتحاد السوفياتي. استعانت بأوروبا وبحلفها مع ألمانيا. بمن سيستعين ماكرون من أجل إيجاد موقع لفرنسا في هذا العالم الجديد الذي أصبح فيه دونالد ترامب رئيسا للقوّة العظمى الوحيدة في العالم واختفت فيه الأحزاب الفرنسية العريقة بقدرة قادر... وقررت بريطانيا الخروج من الاتحاد الأوروبي؟
مشاركة :