النسخة: الرقمية هناك مخطوفة اخرى كانت تسير في الركب الطويل لمخطوفات «بوكو حرام». تبعدها الجغرافيا مسافة كبيرة عن ذلك الرتل، فيما تقرّبها منهن (بل تجعلها في صفوفهن تماماً) ذهنية الشطط الإرهابي المتطرف والمتاجر بالدين الإسلامي. المأساة الكبرى لهذه المخطوفة أنها شعب ووطن، كان إسمها سورية. لنتفاءل قليلاً رغم قسوة العدو والصديق لثورة سورية. لنرفض عبارة «كان إسمها سورية»، بل يبقى إسمها كذلك. لكن سورية فقدت شيئاً كثيراً، وفقدت أكثر حين اختطفت راهبات معلولا على يد «ثوار». لنترك عبارات الإنشاء المنمق. لنحاول قول شيء أكثر عقلانية وواقعية. نعم. لنكف عن رخاوة المثقفين حين يدينون «بوكو حرام» وكأن نيجيريا هناك... في المريخ! هل كانت أفغانستان قريبة حين صارت جزءاً من الجغرافيا السياسية (والثقافية بديهياً) للعرب؟ لماذا نعتبر نيجيريا بعيدة؟ من تابع المأساة العربية والإسلامية في جزائر مختتم القرن العشرين، لن يصعب عليه تصور النسيج الكثيف الذي يربطنا بفتيات «بوكو حرام»، بل يجعلنا نقع في شبه الكذب إن تصرفنا وكأننا خلو من المسؤولية عن ذلك الاختطاف. على مثقفو العرب ترك الدعاوى الفارغة التي تجعلهم يمارسون شيئاً كثيراً من الانكار والتنكر، الذي لا يبرره عمليّاً سوى هامشية وزنهم في مجتمعاتهم، بكل أسف. لم تخرج تظاهرة في العالم العربي ضد «بوكو حرام»، تماماً كما بدا العرب وشوارعهم عاجزين أمام المجازر والمآسي والمهالك التي تسبب بها تنظيم «القاعدة»، إلى حدّ يجعل التهمة الغربية المضمرة للعرب بالتواطؤ الضمني غير المباشر مع «القاعدة»، شيئاً ليس من الخيال ولا معلّق في الفراغ. في كتب التاريخ الأنثروبولوجيا وتاريخ الشعوب القديمة، نقرأ عن اختطاف نساء من قِبَل محاربي القبائل، وسيرهم بهن في الغابات، بل العزم على بيعهن في سوق النخاسة. في تاريخ غير بعيد، خرج على المسلمين في الجزائر من يتجارون دمويّاً بالدين، ليسبوا نساء في جبال الجزائر. في ذلك التاريخ الذي ما زال طريّاً في الذاكرة، تذرّع شخص مسطح الفهم للدين (وموتور كليّاً) كعنتر الزوابري، بتفسيره المتطرّف لدعوة النبي نوح (عليه السلام) إلى ربّه بأن «لا تذر على الأرض من الكافرين ديّاراً» (صدق الله العظيم)، كي يقتل الجنين في رحم أمه، بدعوى أن نوح لم يميّز الأطفال في دعائه على الكافرين بالفناء! تلك الخلطة المسمّمة من التسطّح والتطرف واستسهال الفتوى (ولا ننسى أنها تستند إلى تكفير واسع ومديد، له خطوط واسعة بين أصحاب الفكر المتطرف في الإسلام)، هي عينها في جبال الجزائر، وفي عمليات «القاعدة» وغيرها. وفي تاريخ هذه اللحظة، الأرجح أنه يُسجّل بكلمات ثقيلة أن هذه الأفعال تبرّر بإسم الإسلام، وأنها لا تلقَ لحد الآن جواباً عربيّاً يوازي ثقلها. يجب القول فوراً بأن الأصوات التي ارتفعت من مستويات الافتاء في السعودية، ومن علماء مسلمين في غير بلد إسلامي، جديرة بالاحترام الكامل، بل يمكن القول من دون كبير مجازفة، بأن تلك الأصوات صانت تاريخاً إسلاميّاً حضاريّاً مديداً وجديراً بالفخر. في المقابل، لم تعل أصوات العرب بما يكفي لملاقاة المأساة النيجيرية. الأرجح أنها تغص بالصوت لأسباب كثيرة، لكنها أيضاً تميل إلى تجاهل الاختطاف المأساوي للثورة السورية. لا تكفي الإدانة لـ«داعش» وأشكال «القاعدة». المأساة السورية أعمق. تدفع الثورة السوريّة ثمناً باهضاً سياسيّاً لخطفها على يد التطرف الجهادوي المأساوي. لنفكر قليلاً. قبل الاختطاف، عندما كان يعقد مؤتمر عن سورية أو مؤتمر لأصدقاء سورية أو ينادى بمحاكمة دوليّة لما يجري في سورية، لم يكن أحد يشك في الطرف المُدان: إنه النظام البعثي الديكتاتوري الدموي. لكن، عندما تحدث تلك المؤتمرات والدعوات حاضراً، تظهر نبرة لم تكن موجودة قبلاً بإدانة المعارضة، إلى جانب النظام وأحياناً على قدم المساواة معه. من المسؤول عن اختطاف الثورة السورية إلى هذا الموقع؟ مرّة اخرى، أنها الخلطة المسمومة من التكفير والتطرف والتسطح. يصبح ثمن هذا الاختطاف مضاعفاً عند تذكّر أن الثمن الفعلي لا يدفع في السياسة وحدها. لنفكر في فشل الثورة السورية حيال المُكوّنات المختلفة للشعب السوري، بداية من الأكراد ومروراً بالدروز ووصولاً إلى المسيحيين. هذا الثمن هو تمزّق النسيج الوطني للشعب السوري، بل تفككه وانهياره وطنيّاً. لنفكر في الدمار الهائل في سورية: إنه دمار الوطن والمجتمع والعمران بأكمله. أين هو حضور المثقفين العرب الذي يوازي فعليّاً هذا الخراب العميم؟ ألا يبدو معظمهم أقرب إلى التملّص وغسل اليدين، بمستويات مختلفة، وأحياناً الانحدار الى تصفية حسابات مختلفة؟ لنترك المثقفين. هل صوت الدين الإسلامي عبر هيئاته الممثلة له فعليّاً هو على حضور وفعالية توازي مأساة الاختطاف التكفيري المتطرف في سورية ونيجيريا؟ هذه مجرد صرخة ألم. وللحديث صلة.
مشاركة :