في عام 1897 كان شاب إرلندي يتطلع إلى أن يصبح كاتباً ويرى أنه لن يكون ذلك الكاتب الذي يريده إن لم يمرّ أولاً بـ «العمادة» الأوروبية، فكان أن قصد باريس ما إن أنهى دراساته العليا، وراح يخطط لكتابة مسرحيات، وقرر أولاً أن عليه أن يبدأ بكتابة دراسة مطولة ومعمقة عن «شيخ المسرحيين» الفرنسيين جان راسين. هناك، في تلك اللحظة بالذات شاءت ظروف معينة أن تجمعه بكاتب وشاعر كبير من بلاده هو ويليام بطلر ييتس. وحين سأله هذا الأخير عما يفعل الآن، حدثه عن مشروعه. لكن ييتس بادره متسائلاً عن فائدة مثل هذا المشروع، ثم نصحه بأن ينصرف بدلاً من هذا إلى الكتابة حول وطنه وشعب وطنه فـ «هناك، قال له، مصدر إلهامك الحقيقي ومواضيعك الحقيقية». والحال أن ذلك الشاب، وهو بالطبع جون ميلنغتون سينغ الذي حتى وإن كان لم يعش طويلاً بعد ذلك، سيبقى طوال دزينة من السنوات سيعيشها بعد ذلك، يشعر بالامتنان لمواطنه الكبير على تلك النصيحة. فهو توجه فوراً إلى مسقط رأسه، جزر آران الإرلندية، ليس مرة واحدة، بل مرات. ولئن كانت النتيجة المباشرة لجولاته وإقاماته في تلك الجزر كتابه الرائع، وإن لم يكن الأشهر بين أعماله، «جزر آران»، فإن تلك الحقبة من حياته هي ما جعلت منه ذلك الكاتب المسرحي والقصصي الكبير وإن كان نوع من سوء تفاهم قد ضرب دائماً علاقته بوطنه ومواطنيه كما سنرى بعد قليل، إذ هنا سنتوقف بعض الشيء عند «جزر آران»، الكتاب الذي صدر للمرة الأولى عام 1906. > إذاً بين 1898 و1902 أقام سينغ مرات عدة في تلك الجزر وتجوّل فيها دارساً كل زواياها وأخلاقيات سكانها الذين اكتشف مدى افتخارهم بنمط عيشهم وبتاريخهم الألفي الذي يعتبرونه الأساس الذي قامت عليه حضارات الغرب الأوروبي كلها، هم الذين ما برحت الروح السلتية تسكنهم منذ زمن سحيق. ولعل أول ما صدم سينغ وعبر عنه في أولى المقالات والتحقيقات التي راح يكتبها تباعاً وينشرها في صحيفة «الدايلي إكسبرس» التي كان يعمل لها، كان تلك النقلة التي حققها هو نفسه آتياً من مركز أكبر إشعاع حضاري في العالم حينها، باريس، إلى منطقة لا تزال تعيش الماضي متمسكة به معتبرة إياه ضمانتها الوحيدة في عالم يتغير دائماً إلى الأسوأ. بيد أن سينغ سرعان ما تخلى عن تلك المقارنة التي وجدها غير مجدية، ليندمج تماماً في الحياة العريقة والمنعزلة في جزر كانت لا تفتأ تقاوم الحضارة وتتمسك بكل تفصيل من تفاصيل عيش تعلن ارتياحها إليه. وبالنسبة إلى سينغ كان من الواضح، في النصوص إذ تُقرأ في ترتيب زمني معيّن، أنه لئن كان أول الأمر يكتب من موقع الغريب المندهش أمام ما يرصده ويتحدث في شأنه إلى الناس، راح بالتدريج يكتب متبنياً ما يرصده في لغة تكاد تبدو قريبة من لغة جان جاك روسو في ثناء هذا الأخير على الحياة الفطرية. لقد غاص سينغ في حقائق الأهواء القديمة للناس، وفي أخلاقهم وتصرفاتهم وعلاقاتهم، بحيث أن أي دراسة للعقلية الإرلندية، وليس فقط لعقلية سكان جزر آران، لا يمكنها أن تكون دقيقة إن لم تمر على كتاب سينغ هذا. بيد أن ما يبدو هاماً هنا هو أن الكتاب، بقدر ما يبدو بالتدريج وصفاً لشعب ولأزلية متبناة، يبدو كذلك نوعاً من الوصف لكيفية اكتساب الكاتب، الوعي بجذوره بصورة تدريجية. وإلى هذا لن يفوتنا ذكر كل تلك الحكايات والأمثال الشعبية والأساطير التي نقلها سينغ بفرح طاغ في نصوصه، وهي نفسها التي ستشكل لاحقاً أسس مسرحياته وكتاباته التالية. > سينغ كان بالنسبة إلى الشاعر الفرنسي برنار نويل «أعظم من كتب بالإنكليزية منذ شكسبير» وبالنسبة إلى الشاعر الإرلندي الكبير ويليام بطلر ييتس «شريد صموت مليء بعاطفة خفية»، أما بالنسبة إلى جمهور المسرح في لبنان فإنه ليس أكثر من «المؤلف الإنكليزي المجهول» الذي اقتبس عنه المسرحي اللبناني جلال خوري مسرحيته الشهيرة «قبضاي». يومها بعد تدقيق تبين أن «قبضاي» مأخوذة عن جون ملنغتون سينغ، الكاتب الإرلندي الذي لم يحبه الإرلنديون أبداً، مع أنه عاش كل حياته القصيرة، وكرس كل كتاباته القليلة لوصف حياتهم الحميمة والدفاع عن تقاليدهم وموروثهم. لم يحبه الإرلنديون على وجه الخصوص بسبب مسرحيته «بلاي بوي العالم الغربي» التي اقتبس منها مسرحنا اللبناني «قبضاي». ومع هذا ولد سينغ إرلندياً صميماً وعاش إرلندياً صميماً ومات كذلك، لكن المشكلة كمنت في أن سينغ في مسرحياته ونصوصه مدّ أمام أعين الإرلنديين مرآة رأوا فيها أنفسهم فكان الغضب على الكاتب بدلاً من الغضب على الذات. وذلك هو قدر الكتاب بطبيعة الحال، لا سيما حين ينتمون إلى مجتمعات منغلقة على نفسها مكتفية بذاتها في تعصب قاتل. ومع هذا فإن سينغ لم يكن، بأي حال، مصلحاً اجتماعياً. كان شخصاً بسيطاً مليئاً بكل أنواع العواطف شديد التأثر بما يقال له، وشديد التأثر بما يراه. وهكذا، كان يكفيه أن يقول له شاعر إرلندا الكبير ييتس حين التقاه في باريس عند نهاية القرن الفائت «بدلاً من أن تمضي وقتك وأنت تتجول في أوروبا، عليك أن تعود إلى الأرض الإرلندية فتعيش حياتها وتمتزج بشعبها ولغتها وتكتب، عند ذلك ستكون كتاباتك صادقة وحقيقية»، كان يكفيه أن يقول له ييتس هذا الكلام حتى يعود إلى إرلندا، وتحديداً إلى جزيرة آران يعيش فيها ويختلط بأهلها ويكتب فتطلع منه تلك الكتابة الرائعة. وكان يكفيه أن يرى بأم عينيه كيف يعيش الناس وكيف يعاملون بعضهم البعض وكيف يعصرون اللغة عصراً، وكيف يبدعون لكل يوم لغته الجديدة. كان يكفيه هذا حتى ينعكس كل ما رآه في كتابة جزلة حية مفاجئة، ولكن، أيضاً، محيرة بسبب ذلك الاصطدام الذي عبقت به، بين روعة اللغة وروعة اليومي. ولعل هذا ما جعل لعنة الإرلنديين تحل على سينغ لأنه كشف لهم عن تعامل مع اللغة وتعامل مع الحدث وتعامل مع اليومي كانوا يعتقدونه سر الأسرار المقدسة. > ولد سينغ بالقرب من دبلن في 1871، ومات فيها عام 1909، وهو خلال الثمانية والثلاثين عاماً التي عاشها وقبل أن يصاب بمرض هودجكن الذي قضى عليه في عز شبابه وعطائه، كتب العديد من الأشعار والمسرحيات والنصوص الفولكلورية، وكان همه الأول والأخير أن يعبر عن حساسية الشعب، تلك الحساسية التي كان ييتس قال له إنها أهم شيء عليه أن يهتم به إذا كان يريد أن يكون كاتباً حقيقياً. > دراسته الثانوية تلقاها سينغ في «كلية الثالوث المقدس» التي خرجت أعظم كتاب إرلندا، وفي تلك الكلية تعلم باكراً عشق اللغة والكلمة. بعد ذلك توجه إلى ألمانيا ليدرس الموسيقى لكنه بدلاً من ذلك تجول في أوروبا طولاً وعرضاً حتى التقى ييتس في باريس. وكان التبدل الأساسي في حياته، حين قصد جزيرة آران سعياً وراء جذور الحساسية الشعبية الإرلندية، وهو عاش في تلك الجزيرة معظم سنوات حياته بعد ذلك مختلطاً بأهلها مقتبساً منهم شخصيات مسرحياته ولغتها، وكان من أبرزها «ظل الوادي» (1903) و «خبباً حتى البحر» (1904)، فـ «بئر القديسين» (1905). تلك المسرحيات كانت تقدم أول ما تقدم في «مسرح آبي» الذي ألحقه به ييتس ثم صار مديراً له. وكانت كل مسرحية تثير ثائرة الإرلنديين بسبب جرأة مواضيعها ولكن كذلك بسبب جرأة لغتها، حتى كانت الطامة الكبرى مع «بلاي بوي العالم الغربي» في 1907، تلك التي كان الوطنيون الإرلنديون يهاجمونها أينما عرضت: في دبلن، في لندن أو حتى في الولايات المتحدة الأميركية. > بيد أن المتظاهرين هدأوا قليلاً، أما المسرحية فخلدت وصارت من أبرز قطع الخزان المسرحي العالمي، تترجم إلى كل اللغات وتمثل فيها. وأما سينغ نفسه فإنه في ذلك الحين كان قد بدأ يشعر بالآلام التي ستقوده إلى نهايته المبكرة فيما كان يكتب مسرحيته الأخيرة «ديدري فتاة الأحزان» ويستريح بين وقت وآخر لكتابة نصوص قصيرة غلب فيها إحساسه بالموت، ونشرت بعد رحيله تحت عنوان «قصائد وترجمات» لتكشف عن عشق للفن وللشعب وللغة لا مثيل له.
مشاركة :