لم يمنع التحسن الملحوظ للأداء الاقتصادي البريطاني من مواصلة السلطات المالية جهودها لإصلاح النظام المصرفي. فما زال معظم الاقتصاديين البريطانيين يحملون القطاع المصرفي مسؤولية الأزمة المالية التي اندلعت عام 2008، التي لا تزال الاقتصادات الكبرى تصارع من أجل الخروج منها. فحالة السيولة، وتراخي المراقبة المركزية على المصارف، ووجود عديد من الثغرات في آليات عمل المنظومة المصرفية في بريطانيا، جميعها نقاط ضعف تعمل لندن على سدها، تفاديا لوقوع الأزمة مرة أخرى. في هذا السياق قرر محافظ بنك إنجلترا (البنك المركزي البريطاني) جون كارني إطلاق هيئة معايير جديدة للمصارف البريطانية هذا العام، على أن يتم تعيين رئيسها من قبل لجنة مستقلة برئاسته. وأسندت مهمة تشكيل تلك الهيئة إلى شخص من خارج المنظومة المصرفية تماما، ألا وهو ريتشارد لامبرت المدير العام السابق لاتحاد الصناعة البريطانية، وهو ما أثار علامات استفهام حول الأسباب الداعية لذلك. وقال لـ "الاقتصادية" دينيس ميلر المستشار في وزارة المالية البريطانية، تعليقا على هذه الخطوة: "الصناعة المصرفية في بريطانيا تعرضت لهزة عنيفة في مصداقيتها، بعد سلسلة الفضائح التي منيت بها مثل التلاعب في معدلات الفائدة، وخرق قواعد مكافحة غسل الأموال". وأضاف "علامات الاستفهام والشكوك من قبل الرأي العام البريطاني بل والعالمي تحيط بها الآن، لذلك كان لا بد من شخص من خارج المنظومة حتى يستطيع التعامل معها بدرجة أعلى من التوازن". وأكد، أن اختيار لامبرت جاء بناء على طلب من أكبر خمسة مصارف بريطانية (إتش إس بي سي، باركليز، لويدز، رويال بنك أوف سكوتلندا، ستاندرد)، مضيفا أن خبرته في المجال الصناعي "ستترك بصمات واضحة على تشكيل هذه الهيئة التي نعول عليها في ضبط الأوضاع بالنظام المصرفي". ولم يُضيّع لامبرت كثيرا من الوقت، فقد صرح لوسائل الإعلام تصريحات حملت معها كثيرا من الدلالات، معتبرا "إعادة بناء الثقة والطمأنينة في النظام المصرفي أمرا حيويا خاصة في بريطانيا، وذلك بسبب حجم النظام المصرفي وأهميته الاقتصادية بالنسبة للندن، باعتبارها سوق رأس المال الدولي". ويتفق إضفاء طابع وطني على المهمة الملقى على عاتق المدير العام السابق لاتحاد الصناعة البريطاني تماما مع الدور الذي يقوم به النظام المصرفي البريطاني في مجمل النشاط الاقتصادي. وقد أثار هذا الدور حوارات ونقاشات حادة بين الاقتصاديين البريطانيين حول مدى إيجابيته للاقتصاد البريطاني ككل. فمحافظ بنك إنجلترا مارك كارني أشار أخيرا إلى أن الأصول المتوافرة في المصارف البريطانية ستنمو تسعة أضعاف الناتج القومي الإجمالي بحلول 2050م، وهو ما يعكس أن النظام المالي العالمي وتحديدا في بريطانيا آخذ في النمو بمعدلات تفوق الاقتصاد الحقيقي (الزراعة والصناعة)، وأن بريطانيا ستظل لفترة طويلة مقبلة القطب الأكبر في الأسواق المالية العالمية. وقال لـ "الاقتصادية" الدكتور جون ويلسون أستاذ الاقتصادات المصرفية في جامعة يورك، تعليقا على هذا "الوضع المميز لبريطانيا سواء كسوق رأسمال دولي، أو كنظام مصرفي يتمتع بقدرات ضخمة، يعد شرطا حيويا لضمان استمرار معدلات نمو مرتفعة، ومن ثم مستويات معيشية عالية للشعب البريطاني". وأضاف "هذه المعادلة تعرضت للاهتزاز في السنوات الأخيرة جراء الخلل في البنية المصرفية البريطانية. رؤساء مجالس المصارف البريطانية على علم بذلك، ويدركون أن الإصلاح السريع للنظام المصرفي هو الضمانة للحفاظ على الموقع المميز للمصارف البريطانية". وتابع "لذلك وافقوا على تحمل تكلفة إنشاء هيئة معايير جديدة للمصارف البريطانية، بل الأهم التنازل عن جزء من صلاحياتهم عمليا لهذه الهيئة، فسيكونون من الآن فصاعدا ملزمين بإصدار تقرير سنوي عن التطوير والتحسن في الأداء سواء في الشق الثقافي بمعنى القيم المحددة لعملية تحقيق الأرباح، أو الشق العملي وأعني أسلوب تحقيق الأرباح". وإذ يتزامن تأسيس هيئة معايير جديدة للمصارف البريطانية مع تراجع عائدات أكبر عشرة مصارف استثمارية في العالم بنسبة 9 في المائة في الأشهر الثلاثة الأولى من العام الجاري لتصل إلى 42.8 مليار دولار؛ فإن هذا يتواكب أيضا مع قواعد مصرفية جديدة أكثر صرامة تتطلب من المصارف البريطانية الاحتفاظ باحتياطي أكبر من رؤوس الأموال، وهو ما يؤدي إلى ابتعاد النظام المصرفي أكثر عن الأنشطة التي تتضمن درجات أعلى من المخاطرة. ورغم الآمال المعقودة على أن تنجح تلك الهيئة في إعادة البريق المفقود للنظام المصرفي البريطاني، فإن عددا من خبراء المصارف يؤكدون أن ريتشارد لامبرت لن يمتلك عصا سحرية لإنعاش النظام المصرفي، وأن الأمر سيتوقف على مدى استعداد رؤساء مجالس إدارات المصارف البريطانية للتغيير، وإحداث تحول حقيقي في شعارهم الحالي "الربح أولاً أيا كانت الوسيلة".
مشاركة :