طال هذا الرد مني رغم أني حاولت اختصاره، ورغم أن اختصاره بهذا الشكل قد لا يؤدي إلى غايته، ولكن عذري أن هذا هو المتاح في عالمٍ القارئ فيه سريع الملل، والإعلام فيه متروك للكذابين.. والعادة أن الشبهة تكون قصيرة حادة سريعة الانتشار بينما يحتاج تفنيدها إلى توضيح وتفصيل.. ولا يصبر على هذا إلا قليل.. فأسأل الله أن يجبر التقصير! لما جاء فيلهيلم الثاني، ملك ألمانيا، إلى المشرق حرص على زيارة قبر صلاح الدين مُظهراً له الاحترام والتبجيل، وساعتها أنشد له شوقي يقول: عظيم الناس من يبكي العظاما .. ويندبهم ولو كانوا عظاماً وحين جاءت قوات الاحتلال الفرنسي ودخلت دمشق، ذهب غورو إلى قبر صلاح الدين وركله وهو يقول: "ها قد عدنا يا صلاح الدين"! ويكاد صلاح الدين أن يكون فارقاً بين الأخلاق والوضاعة، فسائر من يقدر القيم والأخلاق ينظر لصلاح الدين نظرة إكبار ولو لم يكن مسلماً، والعكس بالعكس.. ولا يُتوقع من كاتب روايات يشجنها بالجنس، أو كتب ينضدها لتذويب الفوارق بين الأديان ووصمها بالدم، وهو من قبل هذا ومن بعده يعمل في خدمة السلطة المستبدة المتعطشة للدم، لا يتوقع من مثل هذا أن يتخذ موقفاً طيباً من صلاح الدين! يحمل يوسف زيدان حقداً خاصاً تجاه صلاح الدين الأيوبي، فهو لا يفتأ في كل فترة إلا ويخرج بما يطعن فيه مكرراً كلامه، أحياناً بالمقالات وأحياناً في محاضرة وأحياناً في لقاء تلفازي، وتلك الآن ساحات خالية من الشرفاء والأحرار، فلا عجب أن يرتع فيها عملاء العسكر ممن رضوا عنه ورضي بهم، والطيور على أشكالها تقع، وليس أقبح من العسكر إلا المثقف الذي بذل لهم عرضه راضياً مَرضياً! وقد خرج زيدان مع عمرو أديب، وهو من هو في الوقاحة والنفاق، فقال في صلاح الدين: 1. صلاح الدين من أحقر الشخصيات في التاريخ الإنساني. 2. صلاح الدين لما انقلب على الفاطميين عزل الرجال عن النساء لينقطع نسلهم. 3. صلاح الدين أحرق المكتبة الفاطمية التي كانت المكتبة الثانية في العالم بعد بغداد. 4. صلاح الدين لم يعالج ريتشارد قلب الأسد، ولم يكن معالجاً؛ بل كان طبيبه الخاص هو اليهودي موسى بن ميمون (وبغير مناسبة: مَدَح موسى بن ميمون اليهودي مدحاً ممتازاً). 5. صلاح الدين اضطر إلى الحرب في بيت المقدس حين أُسِرت أخته، وتعلمون طبعاً ما كان يُفعل بالأسيرات! 6. صلاح الدين لم يفتح القدس وإنما تسلّمها صُلحاً لما هددوه بتخريب الكنائس! 7. الكامل الأيوبي سنة 628 سلَّم القدس للصليبيين. وقبل أن نبدأ في نقاش هذه النقاط، ينبغي أن نشير إلى الأسلوب الملتوي الخبيث الذي ساق به كلامه.. ذلك أن 3 من هذه الـ7 ليست طعنا في صلاح الدين؛ بل بعضها في حسناته ومناقبه! فإن تسليم الكامل الأيوبي للقدس بعد 44 سنة من تحريرها، وبعد نحو 40 سنة من موت صلاح الدين أمر لا علاقة لصلاح الدين به بالمرة، والأمة التي عظَّمت صلاح الدين واحتفت به هي ذاتها التي جرَّمت فعل الكامل ابن أخيه، ولم تر أن ذنب هذا محسوب على هذا، إلا لو رأينا -مثلا- أن ذنب بيع تيران وصنافير في ميزان سعد الدين الشاذلي! لأن الشاذلي والسيسي عسكر واحد! ثم إن كون الطبيب الخاص لصلاح الدين يهودياً، موسى بن ميمون، إنما هو أمر سجله المؤرخون باعتباره دليلاً على التسامح الديني للسلطان الناصر، أن تشمل رعايته فيلسوفاً متديناً يهودياً طبيباً، فلا هو يضطهده أو يجبره على الإسلام، هذا مع أن موسى بن ميمون كان شر صاحب وقرين، وأظهر حقداً يهودياً على السلطان الناصر، لكن ليس هذا موضع تناوله.. فأين ما يطعن في صلاح الدين ويجعله من أحقر شخصيات التاريخ في هذا؟! كذلك، فإن إبرامه معاهدة الصلح مع الصليبيين لتسليم بيت المقدس حفاظاً على الكنائس التي هددوا بتخريبها.. في أي ميزان يكون هذا؟ في ميزان حسنات السلطان الناصر، أم في ميزان سيئاته؟! أين يستحق أن يوضع الرجل الذي فضَّل أن يحفظ آثار المدينة المقدسة، كنائسها ومساجدها، فضلاُ عن أرواح أهلها، وهو قادر بالميزان العسكري على أخذها حرباً واستباحة أرواح المقاتلين؟! وهكذا من بين 7 أمور ساقها زيدان للتدليل على "حقارة" صلاح الدين، نجد اثنين من مناقبه وفضائله، وواحدة لا علاقة له بها ولا تُحسب عليه. وصدق الشاعر لما قال: إذا حسناتي اللاتي أدل بها .. كن ذنوباً، فقل لي كيف أعتذر؟ هذا أول التدليس.. وبقي أن نرى البقية.. (1) مِن أحقر الشخصيات في التاريخ! دعنا نفترض أن كل ما قاله يوسف زيدان عن صلاح الدين صحيح، وأن صلاح الدين قد اقترف هذه الخطايا.. هل يكون هذا مسوغاً ليوصف بهذا الوصف البشع الشنيع: مِن أحقر الشخصيات في التاريخ الإنساني؟! هذا السلطان الذي حافظ على مصر مرتين من احتلال صليبي، وأعاد وحدة مصر والشام، وأعاد اجتماع الأمة في مصر والشام، فضلاً عن أنحاء في ليبيا واليمن تحت راية خلافة واحدة، وحصَّن القاهرة وبنى قلعتها ليحفظها من الأطماع الصليبية، وحرر بيت المقدس بعد 90 سنة، وأقام الدولة الأيوبية التي كانت واحدة من أعظم الفترات التي مرَّت على مصر في اتساع المساحة وقوة السلطان ونفوذ الكلمة بعد أن تسلّمها من العبيديين الفاطميين ضعيفة تغري باحتلالها وتضرب فيها الفوضى بالمعارك بين وزرائها مع ضعف خليفتهم العبيدي الفاطمي، ووقف بجيشه أمام جيوش أوروبا الرهيبة بقيادة ريتشارد قلب الأسد حتى عجزت أن تعيد احتلال بيت المقدس رغم الفارق الهائل في القوة.. إلى آخر ما نستطيع أن نسرده من إنجازات حفر بها الناصر اسمه في التاريخ! هذا الرجل الذي فعل كل هذا يوصف بأنه من أحقر الشخصيات في التاريخ إذا أحرق مكتبة أو قسا في استئصال النظام القديم أو اضطر إلى فتح بيت المقدس سلماً أو اتخذ طبيباً يهودياً؟! إذاً، كيف يحكم يوسف زيدان على شارلمان أو بسمارك أو نابليون أو الإسكندر إن كانت حساسيته المرفهة تجعل مثل أخطاء صلاح الدين كافية لإنزال صاحبها من مرتبة الأبطال إلى مرتبة "أحقر شخصيات التاريخ"؟! وبالمناسبة: أين يرى يوسف زيدان مكان السيسي بين شخصيات التاريخ؟! (2) قصة عزل الفاطميين ذكر يوسف زيدان أن صلاح الدين عزل رجال الفاطميين عن النساء لينقرض نسلهم.. وقد وردت هذه الرواية عند عامة المؤرخين، وفي الأمر تفصيل يجب التنبه إليه: بداية، فإن سيرة الثورات والانقلابات في أعدائهم من النظام القديم هي في العادة سيرة القتل؛ وذلك لضمان ألا تنقلب الفلول مرة أخرى على الوضع الجديد، إلا أن صلاح الدين لم يتتبعهم بالقتل، وإنما عزل أهل الخليفة العاضد في بيت خارج القصر مع ما يكفيهم من النفقة والطعام والكسوة، ثم عزل بقية الفاطميين في ناحية من القصر.. ثم إنه باع وأعتق العبيد والجواري (كما فعل في بقية كنوز القصر المتكدس بالأموال والكنوز)، ومن أولئك العبيد من كان حرًّا واستُعبِد ظلماً. هذا هو الإجراء الظاهر الواضح الذي تتفق عليه الروايات.. وهو إجراء يشبه السجن في أيامنا هذه، إلا أنه سجن في قصر! وأما القول بأن الغرض هو منع نسلهم، فلا يمكن قبوله إلا أن يكون صلاح الدين أو أحد من حاشيته قد صرَّح بهذا الغرض، وإلا فهو استنتاج من المؤرخ، واستنتاج المؤرخ هذا قابل للنقض أو الرفض، ونجد من المستبعد أن يكون هذا هدف صلاح الدين؛ إذ الأسهل عليه أن يقتلهم وقد كان هذا بإمكانه، وهو كما ذكرنا سيرة النظام الجديد مع أركان النظام القديم، لا سيما أن غرض قطع النسل هذا يحتاج زمناً طويلاً لضمان نجاحه، وهو أمر مرهق على السلطة أن تتحمل تكاليفه وتكاليف متابعته، خصوصاً أنه لا يُنقل في مراحل متعاقبة شيء عن متابعة هؤلاء أو مصيرهم رغم ما حصل من اضطرابات بالدولة الأيوبية. والفكرة نفسها لا تبدو طبيعية أن يُسجن جميع رجال الأسرة الحاكمة في ناحية من نواحي القصر لمدة طويلة! أما حيث لم يقتلهم وإنما سجنهم في ناحية من القصر، وأخرج أهل العاضد -الخليفة الأخير الراحل- إلى خارج القصر، فأقرب التفسيرات أن هذا إنما هو إجراء أمني، وقد بدأت بوادر هذه الإجراءات من قبل موت الخليفة العاضد بعدما اكتشف أن "جوهر" مؤتمن دار الخلافة (رئيس ديوان الرئاسة بمصطلح العصر) راسل الفرنجة لغزو مصر، فعندئذ بدأ صلاح الدين في فرض رقابة على ما يدخل وما يخرج من القصر. وتكررت محاولتان كبريان على الأقل للانقلاب على صلاح الدين من مراكز قوى في العسكر العبيدي، فكان طبيعياً في تلك الأحوال أن تتخذ مثل هذه الإجراءات. لذلك، فعامة المؤرخين المحدثين من المسلمين والغربيين لا ينقلون هذا الغرض "قطع النسل" وإنما ينحازون إلى كونه إجراء أمنياً على عادة ما تجري به الثورات والانقلابات في أنظمة الحكم. والغريب أن بعض المؤرخين يصرح بأن هذه الدولة كانت أسهل الدول في الانقضاء والانتهاء بغير مذابح أو دماء كثيرة وبغير فوضى واضطراب واسع، يقول ابن مماتي: "لم تشهد التواريخ بانقضاء دولة كانقضاء دولتهم على حالة سكون وأحمد قضية تكون" (نقلاً عن: مسالك الأبصار لابن فضل الله العمري 24/105 ط العلمية)، ويقول ابن الأثير: "فلم يتنطح فيها عنزان" (الكامل 10/34 ط العلمية)، ويقول كارل بروكلمان: "ومع أن صلاح الدين لم يصطنع القوة في كبت النفوذ الشيعي فقد خسر الشيعة سنادهم الطبيعي بسقوط الدولة الفاطمية" (تاريخ الشعوب الإسلامية ص352، 353 ط دار العلم للملايين). ثم نعود فنقول: فلو صدقت هذه الرواية بكل تفاصيلها فإنما يكون صلاح الدين قد حكم على رجالهم بالسجن مدى الحياة (بلغتنا المعاصرة)، فلو كان هذا الحال هو ما دعا يوسف زيدان إلى وصفه بأنه من أحقر شخصيات التاريخ، فما يقول الأديب المرهف المثقف الحساس في رجل قتل الآلاف في الشوارع، وسجن الرجال والنساء في زنازين حقيرة تجذب الأمراض (لا في قصر الخلافة كما فعل صلاح الدين)، وأعطى الإعدامات بالمئات والمؤبدات بمئات السنين، مع حساب مفتوح من التعذيب الرهيب ومن التصفيات الجسدية المستمرة منذ 4 سنوات؟! ثم هو بعد ذلك من أركان الحكم (الصليبي، الصهيوني) بمصر، لا يفكر في تحرير ولا بقطمير؟! أين نضع هذا في جملة الشخصيات الحقيرة في التاريخ؟ (3) حرق دار الحكمة وأما قصة حرقه مكتبة دار الحكمة، ففيها تفصيل ينبغي أن يُقال: أولا: ثمة فارق مهم لا ينتبه له الأكثرون في أيامنا؛ لأننا نعيش في ظلال الدولة العلمانية والأفكار العلمانية، الفارق بين الدولة الإسلامية والدولة العلمانية أن الأولى دولة تقوم وتستمد شرعيتها من الدين، ونظام حكمها يقيم الدين، وعلماؤها يعرفون مهمة الخليفة على أنها "حراسة الدين وسياسة الدنيا به"، ولذلك فالنظام الإسلامي حساس تجاه ما يخدش الدين أو يطعن فيه أو يسيء إليه، ومسألة حرق الكتب التي فيها كفر أو فُحْش أو زندقة ليست مما يُستنكر في وجدان المسلمين عموماً. أما الدولة العلمانية، فهي تقوم على أساس مادي، وتستمد شرعيتها من الإنجاز المادي كالرفاهية والأمن والرخاء والاقتصاد، ولذلك ليست لديها حساسية تجاه عبادات الناس أو أخلاقهم أو أديانهم، الحساسية كلها تخص ما يمس الدولة.. فلا بأس لديها بشرب الخمر طالما تُشرب في غير أوقات العمل أو طالما لم تُشرب في لحظة قيادة السيارة (لا للحفاظ على صحة النفس؛ بل خشية من الحوادث)، ولا بأس بفتح دور ممارسة الزنا طالما ستلتزم بأداء الضرائب.. أما مسألة كحيازة السلاح أو تشكيل تنظيم أو تكوين جماعة أو الدعوة إلى ما يخالف نظامها (كالدعوة إلى الملكية في بلد نظامها جمهوري أو العكس) أو إهانة العلم أو الدستور- فهنا تعمل الحاسة الأمنية وتتحرك القوات لإجهاض هذا. فبداية، يجب أن نفهم أن كتابة ما فيه كفر وفحش وزندقة في النظام الإسلامي يُشبه تكوين ميليشيا مسلحة في النظام العلماني.. الأمور الجوهرية التي ينبني عليها نظام الدولة لا تسمح السلطة فيها بالحرية! هذا من حيث المبدأ، وأما من حيث التطبيق فتاريخ التسامح الإسلامي مع الأفكار المخالفة أوسع بكثير ولا يُقارن بتاريخ التسامح الأوروبي العلماني مع التنظيمات المخالفة! وهكذا، فمن حيث المبدأ، لن تجد كثير اعتراض لدى المسلمين في مسألة حرق الكتب الفاسدة أو الفاحشة. ثانياً: أما القصة نفسها، فقد كذب يوسف زيدان في نقلها، أو لعله نقلها من مصدر شيعي فلم يراجع كذبته فاعتنقها كما هي. تقول الرواية الزيدانية بأن صلاح الدين جاء إلى المكتبة التي تحوي نفائس المؤلفات فأحرقها وجعلها رماداً؛ خوفاً مما فيها من أفكار الشيعة، وهكذا خسرت مصر علوماً وتراثاً هائلاً. بينما الرواية التي نقلتها كتب التاريخ على نحو آخر: فالمكتبة كانت فعلاً من عجائب الزمان، وتحتوي على مئات آلاف الكتب، لكن هذه الكتب لم تكن شيعية؛ بل كانت تلك مكتبة جامعة، ولا يملأ التراث الشيعي لا سيما في هذا الوقت المبكر مئات الآلاف من المجلدات؛ بل تذكر الروايات أن فيها نسخاً عديدة من تاريخ الطبري ومن غيره. ثم إن صلاح الدين لم يحرقها، وإنما أنهى عمل المكتبة التي تمثل صرحاً ثقافياً وروحياً من تراث النظام القديم، أما الكتب التي فيها، فقد وُزِّعت فحُمل بعضها إلى الشام (وكانت مصر والشام وقتها دولة واحدة، يعني كأننا نقلنا محتويات من مكتبة الإسكندرية إلى أسوان.. لن يكون هذا إهداراً لثروة ولا تراث؛ بل إعادة توزيع) ووزع بعضها على العلماء والقضاة، فأخذ منها القاضي الفاضل كثيراً من الكتب فكانت نواة مكتبة المدرسة الفاضلية، واشترى منها الوزير أبو الفرج المغربي (خطط المقريزي 2/290 وما بعدها ط العلمية) والعماد الأصفهاني (الروضتين 2/212 ت: الزيبق ط الرسالة) وبيعت بقية الكتب. فلم يكن الأمر إحراقاً، ولو جرى حرق لكان أولى المؤرخين بذكره ابن أبي طيئ الشيعي أو حتى المقريزي، وهما ممن تؤخذ عنهم الروايات المناهضة لصلاح الدين.. إنما كان الأمر كما ذكرنا هدماً لصرح روحي ثقافي فكري للنظام القديم.. تماماً كما أُزيل اسم سوزان مبارك وصورتها وكلامها عن إصدارات مكتبة الأسرة بعد ثورة يناير/كانون الثاني، أو أزيل اسم مبارك عن المكتبة المسماة اسمه.. لم يكن الأمر متعلقاً بالكتب، وإنما بالنظام السياسي القائم ومحاربته رموز وصروح النظام القديم. وأما الذي ذُكِر من الحرق الذي ناله بعض الكتب، فقد نقله المقريزي عن عبيد جهلة وصلت إليهم الكتب ولم يعرفوا إلا أنها خرجت من قصر السلطان، فما أتلفوه أو أحرقوه منها إنما كان ظناً منهم أنها كتب زندقة وكفر. والمثير أن كلام يوسف زيدان يوحي بأن المكتبة كانت مكتبة عامة مفتوحة للجميع، بينما الواقع أنها -كما في وصف المقريزي- كانت مكتبة خاصة في قصر الخلافة، أي لم يكن الذي فيها من الكتب إلا كمثل المتحف الذي يجمع النوادر من المقتنيات، بينما لم ينتفع بها الناس؛ بل ما فعله صلاح الدين من بيعها وتوزيعها وتأسيس مكتبات بأجزاء منها إنما هو الذي خدم العلم ونشره.. وقد فعل ذلك في بقية كنوز قصر الخلافة التي جُمِعت بأموال الناس وكُدِّست وكُوِّمت، فلما استولى عليها صار يهدي منها ويبيع، كما كان سيفعل أي نظام حكم مخلص في تفريق أموال وكنوز النظام البائد على ما ينفع الناس ويخدم البلد. على أن يوسف زيدان وغيره من المتعاطفين مع الدولة العبيدية (الفاطمية) لا يذكرون أبداُ، لا على سبيل الذكر ولا على سبيل الإنكار، أن الفاطميين أتلفوا كتباً لأهل السنة، ومن ذلك 7 قناطير كتب ألفها أبو محمد بن أبي هاشم التجيبي، وتشير عبارة الرواية إلى أنها كانت عادة لسلاطينهم (انظر: رياض النفوس 2/423، ت: البكوش والعروسي ط دار الغرب)، وحرّموا الإفتاء على مذهب مالك وعاقبوا من يفعل، هذا فضلاً عن منعهم تدريس مذهب السُّنة في المساجد، حتى صارت كتبهم لا تُقرأ إلا في البيوت، وغير ذلك مما هو مشهور ولا يتسع له المقام. فهل وصف زيدان أحداً من الفاطميين بأنه من أحقر شخصيات التاريخ؟!! إلا أن حسرة زيدان، وأمثاله من العلمانيين على الكتب، تجعلنا نسأل في المقابل: لماذا لا نرى العلمانيين يعارضون منع الحكام الآن نشر أفكار وكتب المناهضين لحكوماتهم؟ هل تتسع الحرية الفكرية التي يبكي عليها يوسف زيدان لأن يُسمح في مصر بطباعة كتب داعش أو تنظيم القاعدة؟! هل ضُبِط يوسف زيدان أو أي علماني آخر بالدعوة لحرية نشر كتب الظواهري أو أبي مصعب السوري أو سيد إمام أو غيرهم؟! الواقع أن السلطات المصرية أحرقت بالفعل، وأمام الشاشات، وفي ساحات المدارس، كتب المنتسبين إلى الاعتدال كالغزالي والقرضاوي، فضلاً عن سيد قطب وبقية مشايخ الإخوان؛ بل إن الحملة العلمانية الآن تطالب بحرق كتب التراث الفقهية التي تمثل مصدراً معرفياً تاريخياً وقانونياً، فضلاً عن قيمتها الدينية.. ومع هذا، فالعلمانيون يعتبرون هذا من إجراءات مكافحة الإرهاب والتطرف! (4) اضطراره إلى تحرير بيت المقدس لأن أخته أُسِرت يحاول زيدان أن يطعن في صلاح الدين بأن يجعل تحريره لبيت المقدس إنما كان لغضب شخصي لا لأنها مهمة دينية مقدسة، فجاء بما يضحك، وكم في مصر من المضحكات ولكنه ضحك كالبكا! فلو أن صلاح الدين حرر القدس إنقاذاً لأخته فلنعم الأخت هي على الأمة وعلى المسلمين، قد كانت طريقاً لتحرير المدينة المقدسة، ولا يُلام الرجل إن غضب لعرضه فشنَّ حرباً، فكذلك يفعل الأحرار ذوو المروءة والنجدة لا المخانيث الذين يحكموننا الآن فيهتكون أعراض نساء البلاد بأنفسهم، ولا تهز فيهم انتهاكات أعراض المسلمات شعرة! لكن الواقع أن المسألة لو كانت مسألة أخته، فما أسهل أن يهدد صلاح الدين بحرب فيطلقونها له تجنّباً لحرب لا يطيقونها، لا سيما أن الوقت كان حينئذ وقت هدنة قبل أن يخرقها إرناط، وأغلب الظن أن يوسف زيدان أخذ هذه القصة من فيلم "مملكة الجنة"، حيث ورد فيه هذه القصة. والحقيقة أن ست الشام (أخت صلاح الدين) لم تؤسر، ولو أُسِرت لكان الخبر مشهوراً ذائعاً في كتب التاريخ، إلا أن ذلك لم يكن، وإنما الذي ورد أن قافلة كانت فيها ست الشام خرج لها جيش لحمايتها من غارة متوقعة لإرناط، وقد تم الأمر ومضت القافلة بسلام! إن مجرد سوق هذا السبب في تفسير تحرير صلاح الدين بيت المقدس، إنما يدل على حقد عميق في نفس صاحبه؛ إذ إن سيرة صلاح الدين منذ أولها إلى آخرها هي سيرة مجاهد يضع القدس صوب عينيه، عاش لهذا المشروع أبوه من قبله حين كان قائداً لعماد الدين زنكي ثم لنور الدين، وفي الجهاد ضد الصليبيين مات أخوه، وكانت أسرته عماد الدولة الزنكية وعصبتها العسكرية، ولهذا جاءوا إلى مصر، ولهذا انطلقوا إلى بيت المقدس، ولهذا واجهوا الحملة الثالثة وأعجزوها عن إعادة احتلال القدس! ألا صدق المتنبي: وإذا أتتك مذمتي من ناقص .. فهي الشهادة لي بأني كامل (5) تفسير ما يناقض ذلك لو أن الأمر مجرد بحث علمي نزيه لوجد يوسف زيدان نفسه مضطراُ قبل أن يُصدر هذا الوصف القبيح إلى أن يُفَسِّر ما يناقض هذا الوصف مما اشتُهر به صلاح الدين. لقد اشتُهر صلاح الدين شهرة واسعة بالأخلاق والنبل والفروسية، وقبل أشهر كنت أقدم ورقة علمية عن "مدح المستشرقين والمؤرخين الغربيين للسلطان الناصر صلاح الدين" في مؤتمر علمي عن صلاح الدين عقدته جامعة سييرت التركية، فاستطعت أن أجمع من أقوالهم بغير مجهود كبير ما لو قيل بعض بعضه من قِبَل مسلمين لاتُّهم بالتعصب والتطرف! (راجع هذه المقالات الأربعة ففيها خلاصة الورقة: ، ، ، ) لقد بلغت شهرة صلاح الدين في التاريخ مبلغاً عظيماً؛ لأن الآراء قد أجمعت على أنه أنبل من اشترك في الحروب الصليبية كما قال ول ديورانت، وهو الذي كانت أخلاقه قد سحرت الكثير من الفرسان الصليبيين فأسلموا وتركوا دينهم كما قال توماس أرنولد، إلا أنه عند مثقفي نكبتنا وخيبتنا "من أحقر شخصيات التاريخ"! لو كان الأمر علماً حقاً لاجتهد أن يفسر يوسف زيدان كيف ظهرت من كل صلاح الدين هذه الأخلاق، وهو الحقير الموغل في الحقارة، وكيف شملت أخلاقه الأقليات غير المسلمة تحت حكمه؛ بل وشملت أعداءه الصليبيين، وكيف شملت رعايته -إن كان يكره العلم ويحرق الكتب- العلماء ورفعه مقامهم واستعانته بهم والجلوس إليهم. ثم لا بد أن يخرج بتفسير يمكنه الصمود أمام الرسوخ التاريخي لحقيقة ومكانة صلاح الدين والتي هي موضع اتفاق بين المؤرخين، حتى إن بعض الغربيين اصطنع له نسباً في المسيحية، فادعى أن أمه مسيحية أو أنه اعتنق المسيحية عند موته، ووضعه دانتي مع فضلاء الكفار في جحيم الكوميديا الإلهية.. فهل يستطيع زيدان أن يفعل؟! لو استطاع المهرج أن يلمس الشمس لاستطاع مثل زيدان الخروج بتفسير يدعم حكمه الساقط هذا! ولا أجد ختاماً خيراً من وصف القاضي ابن شداد وهو يتحدث عن يوم وفاة صلاح الدين، فيقول: "كان يوماً لم يصب الإسلام والمسلمون بمثله منذ فقدوا الخلفاء الراشدين وغشي القلعة والبلد والدنيا من الوحشة ما لا يعلمه إلا الله تعالى. وتالله، لقد كنت أسمع من بعض الناس أنهم يتمنون فِدَاء من يعزُّ عليهم بنفوسهم، فكنت أحمل ذلك على ضرب من التجوز والترخص إلى ذلك اليوم، فإني علمت من نفسى ومن غيري أنّه لو قُبِلَ الفداء لفُدِيَ بالنفس" (النوادر ص364 ت: الشيال ط الخانجي). ترى، هل يرضى يوسف زيدان بأن يفدي السيسي بنفسه؟! اقرأ: معركة قديمة مع يوسف زيدان (ثم ) ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :