مرض أخي وزميلي وصديقي تركي العبدالله السديري، ثم موته، وقبل ذلك استقالته، فانعزاله، ثم تواريه عن الأنظار، كان ذلك بالنسبة لي صدمة جعلتني لا أفيق منها كلما تذكرت الرحلة الطويلة من أعمارنا، والشراكة التي جمعتنا على مدى نصف قرن، ويزداد الأمر أسى، وشعوراً طاغياً من الألم أن هذه الرحلة لم تخلُ من منغصات، ولم تكن بلا أمواج تتكسر على صخور من التباين في وجهات النظر في عناد اقتضته طبيعة المنافسة، وإن كانت تداعياتها غير المرضية تُدفن تارة بمبادرات من الفقيد الغالي، وأحياناً مني، مع التأكيد على أن الأخ والصديق والزميل تركي كان الأكثر في لملمة الجراح، وإعادة العلاقة إلى طبيعتها كلما اشتط بنا الاندفاع، وأخذنا الحماس والكبرياء إلى ما لا يحبذه أو يريده كل منا. ** لا أحد اختلف مع أبي عبدالله أكثر مني، ولا أحد عاندني كما فعل تركي السديري، وأزعم أننا كنا نتعامل مع بعضنا بإعطاء قيمة ومعنى مغاير حتى في أسلوب خلافاتنا، وأننا نحسب كثيراً لما يمكن أن تؤول إليه مواقفنا التنافسية من تداعيات ونتائج، فلا نذهب بها بعيداً، وأن أيامنا رغم شراسة الخلافات أحياناًً لم يحد معها أحدنا عن التزامه الأخلاقي والإنساني في احترام المنافسة، وما كان يتولد عنها من تأثيرات على مستوى العلاقة الشخصية التي تظهر للجمهور، بل والحرص في البحث عن فرص لتطويقها، أو وضعها عند حدها وسقفها الطبيعي كأي منافسة بين صنعتين وعملين متجانسين، وكان تركي هو الفارس والمعلم والصدر الرحب في كل هذا. ** كانت أهم الإيجابيات في هذا الاختلاف، أن صحيفتي الرياض والجزيرة لم تشهدا التطور، والارتقاء بمستواهما، إلا بفضل هذه المنافسة الشرسة التي كانت أحياناًً على حساب العلاقة الشخصية بين صديقين ارتبطا بأوثق العلاقات قبل أن يكون كل منهما رئيساً لتحرير صحيفته، وكان من إيجابياتها أننا أعطينا - كما أعتقد - دروساً في حرصنا على الالتزام بالأمانة التي أوكلت لكل منا في صحيفته، فلم يسمح أحدنا بأن يهمِّشه الآخر، أو يقصي صحيفته عن حقها الطبيعي في السوق وبين القراء، فظلَّ كل منا يدافع بضراوة عن صحيفته، والعمل في كل اتجاه لأن تكون هي الأولى، بالعمل، والجدية، وعدم القبول أو السماح بأي إساءة أو تهميش قد يصدران بعفوية، أو باجتهاد يكون تقديره في غير محله. ** كثيرون يعتقدون أننا أعداء، وأن لا رابطة ودٍّ تجمعنا، وأن ما نحمله لبعضنا لا يُصنَّف إلا على أنه يتعدى المنافسة الصحفية إلى المساس بالعلاقة الشخصية، وهذا سوء فهم، وقراءة غير صحيحة، فما كان يجمعني بالأستاذ تركي السديري من الود والصداقة والمحبة أكثر بكثير من أي تصور يخالف هذا الوصف، وما ربطني به على مدى نصف قرن من الزمالة حمل من السمو والأريحية والخصال الحميدة ما أعتز به وخاصة تلك العلاقة التي تُوصف عادة بأنها شخصية، فقد سافرنا معاً كثيراً، بعضها في رحلات عمل، وأخريات في رحلات خاصة، وكانت كل رحلة بمنزلة فرصة لغسل ما قد يكون قد حدث من منافسات تولَّد عنها وقفة نَفَس، وكنا نبحث دائماً عن مثل هذه الفرص لمداواة ما عَلِقَ من سوء فهم بيننا، ومعالجة أسباب ذلك. ** لقد حرصت على أن أعود الرجل الذي احترمه وأجله وأقدِّره وأحمل له محبة خاصة في زيارات له في منزله خلال تطور مرضه، وكنت مع كل زيارة أخرج منها مكسور الخاطر، حزيناً بما آل إليه وضعه الصحي، دون أن أظهر له ذلك، وكان يشعرني بأنه بخير، وأن وضعه الصحي طبيعي، وأنه لا يشكو من شيء، فأحمد الله أنه على هذه الدرجة من الإيمان بالله والصبر على ما أصابه، والاحتساب فيما يمر به من وضع صحي دقيق، مسلِّماً أمره إلى الله، لكن رحلة العمر، ورفقة الحياة مع تركي، لا يمكن لها أن تخرجني من أجواء الموت أمام معرفتي بوضعه الصحي الذي كان يتدهور بسرعة. ** ولئن فقدنا الزميل العزيز تركي، وخلت الساحة من فكره وقلمه، ولئن حال الموت بينه وبين معشوقته الصحافة التي أمضى نصف قرن في بلاطها، لا يؤنسه شيء كما يؤنسه هدير آلاتها الطباعية ورائحة حبرها وخبرها، فقد ترك سيرة صحفية تتحدث عن صحفي عملاق، وقلم صادق، وإنجازات لا يمكن إلا أن يكون مكانها في الصفحات الناصعة من صفحات التاريخ، حين يؤرخ للصحافة السعودية خلال نصف قرن مضى، وحين يكتب عن الجيل الذهبي من الصحفيين اللامعين الذين يُعَدُّ تركي السديري أحدهم، ما يجعل في وفاته خسارةً لا تعوض، وغيابه ضربة موجعة للصحافة في بلادنا، إذ إن اختفاء الأسماء الصحفية الكبيرة من الميدان سوف يلقي بظلاله على مستوى الحركة الصحفية والنشاط الصحفي في المستقبل. ** وما يمكن أن يضاف إلى أي حديث عن فقيدنا تركي السديري، وما يمكن لي أن أقوله عنه، سخاؤه وكرمه ونبله وإنسانيته، وإن عابه - كما يرى البعض - انفعاله أو حماسه أمام بعض المواقف، وهو ما أفسره شخصياً بأن مصدر ذلك يأتي من تمسكه بالمبادئ السليمة التي يؤمن بها، وحرصه على إتقان عمله، والدفاع المشروع عنه، والذَّب عن كل مشروع يتبناه في صحيفة الرياض على أنه هو الخيار الأفضل، وهو ما كلفه بعضاً من الخصومات داخل المؤسسة التي تصدر منها صحيفة الرياض في بدايات عمله، وقد فضَّل هذه الخصومة على القبول بآراء لا تحقق للرياض النجاحات الكثيرة التي تحققت لاحقاً بفضل إدارته وعلمه وحماسه إلى أن بلغت ما بلغته من نجاح. ** ولعل أكثر ما يلفت النظر أن من اختلفوا معه في مؤسسة اليمامة الصحفية في بداية عمله تراجعوا وقبلوا بآرائه لاحقاً بعد أن رأوا نجاح برامجه وخططه وحسن إدارته، حتى أن المؤسسة ومع استقالته من رئاسة التحرير أصرت من خلال قرار لمجلس الإدارة أن يبقى اسمه لا كرئيس تحرير، وإنما كمشرف على الإدارة والتحرير، دون أن يمارس هذا العمل بالمسمى الجديد، وذلك تقديراً وعرفاناً للرجل الذي قاد الصحيفة إلى هذا المستوى الذي وصلت إليه، وهو تقدير رمزي يحمل معاني كثيرة على وفاء مؤسسة اليمامة وتقديرها لرجل عمل رئيساً للتحرير أكثر من أربعين عاماً. ** كلام كثير يستحق زميلنا أن يقال عنه، لكني أسمح لنفسي خارج الحديث عن علاقته وعمله بصحيفة الرياض ومعي شخصياً، أن أتحدث عن جانب شخصي لا يعرفه إلا القريبون منه، وأعني بذلك أن عمله المتواصل بالصحيفة لم يصرفه عن الاهتمام بأبنائه وأسرته، إذ تابع دراساتهم مرحلة مرحلة إلى أن أنهوا مراحل تعليمهم وحصل أغلبهم على أعلى الشهادات، بل ولم يغادر الدنيا إلا وقد أمَّن لكل أبنائه وبناته مساكن حرص أن تكون بجوار منزله ليكونوا قريبين منه، وهناك مواقف له تمتد إلى الأقرباء والأصدقاء وذوي الحاجة ممن تربطهم صلة أو معرفة بالمرحوم، إذ كان على تواصل معهم، يدعمهم ويقف إلى جانبهم، ويقضي حوائجهم، دون أن يعرف أحد بذلك. ** موقف لا أنساه لتركي عبدالله السديري، فقد كنت ذات يوم في مستشفى الملك فيصل التخصصي، وإذا بأبي عبدالله يدفع بنفسه عربة تحمل امرأة مُسِنَّة، وحين اقتربت منه أسأله عمن تكون هذه السيدة، فإذا بها شقيقته -رحمها الله- والدة معالي الشيخ فهد الخالد السديري - كما فهمت إن لم تخني الذاكرة -، وقد صحبها ليتأكد من حالتها الصحية، ويطمئن على تشخيصها وبرنامج علاجها، ليضيف إلى ما يعطيها ابنها الشيخ فهد من اهتمام وعناية ومتابعة وحنان، واهتمام هو الآخر، ما جعلني أكبر فيه هذا الحس الإنساني لشقيقته الوحيدة، إذ لم يسمح لخادمتها التي كانت ترافقها أن تدفع بالعربة نيابة عنه، فقد كان باراً بأقرب الناس إليه، حريصاً على الوفاء بالتزاماته نحو أسرته، لا يظهر ذلك في نظراته، ما يعني أن على العارفين ببواطن الأمور من المقربين منه أن يتحدثوا باستفاضة عن جوانب لافتة في مواقفه الإنسانية التي لا يعرف الكثيرون شيئاً عنها. ** رحم الله الرجل الذي أشعر أنني بفقده قد فقدت شيئاً غالياً لا أقدره في حياتي، وعظم الله أجر أسرته، وجعل مسكنه في عليين، وأحسن الله عزاء رفيقة عمره أم محمد وأبنائه عبدالله وإخوانه وأخواته في وفاة والدهم، وما أحراهم وأحرانا أن ندعو له في هذا اليوم الحزين بالرحمة والمغفرة، وما أحرى بسمو أمير المنطقة صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن بندر أن يسمي شارعاً في الرياض باسم تركي العبدالله السديري الذي خدم العاصمة بقلمه وصحيفته نصف قرن من الزمان.
مشاركة :