< الراحل تركي السديري، له رمزية تاريخية في الصحافة السعودية تشبه تلك التي كان يمثلها غسان تويني في الصحافة اللبنانية. كل منهما صنع حقبة صحافية في بلده. السديري أحد أهم الآباء المؤسسين للصحافة الحديثة في السعودية، وغيابه يعني إسدال الستار على مرحلة مهمة في تاريخ هذه الصحافة. والسديري كان له دور بارز في حماية مناخها العام. لم يكن رئيس تحرير فحسب، كان صاحب دور ورؤية متفردة واستطاع إيجاد صيغة ترضي الأجهزة، وتعجب الصحافيين، وتتمسك بمقاييس مهنية مقبولة، أتاحت للصحافة التطور والنمو. واستطاع من خلال جريدة «الرياض»، التي شكل ملامحها، أن يصنع باقتدار معايير تلك المرحلة، ويوظف موقعه للدفاع عن حقوق الصحافة ودورها. تركي السديري كان تقدمياً معتدلاً، وهو نجح في إيجاد توليفة مدهشة أتاحت الفرصة لتيار «الحداثة» في الشعر والأدب والفن، ولَعِبَت دوراً مؤثراً في تطور الحركة الثقافية في السعودية، وتمسك في الوقت ذاته بتقاليد المجتمع المحافظة من دون جمود أو تراجع، وحقق هذه المعادلة على نحو يعد سابقة في صنع التوازن. وعلى رغم أن جريدة «الرياض» لم تكن الصحيفة الرسمية للدولة، إلا أن قدرة السديري على فهم تطلعات المجتمع، ومزاج الحكومة، جعل الآخرين ينظرون إلى جريدة «الرياض» باعتبارها تمثل وجهة النظر الرسمية بالمعنى القانوني. تركي السديري مارس جرأة محسوبة في تناول القضايا الاجتماعية، وكان سباقاً في فتح أبواب التغيير، ليس معارضاً، ولا مستسلماً، جمع بين الاختلاف والموافقة، ومسايرته بعض التوجهات حمت اعتراضاته، وكرست توجهاته. ولهذا شكّل دوره الفريد مناخاً شجع الآخرين على طرق كل القضايا، والمضي في تحقيق هذه المعادلة، حتى يمكن القول، من دون مبالغة، إن تركي السديري هو أول من طبق نظرية «الرضا بربع رغيف خير من التضور جوعاً» التي كتبها أستاذ الصحافة الأميركي ألبرت هيستر، في ثمانينات القرن العشرين. لا شك في أن تركي السديري سخّر الثقة التي اكتسبها لتطوير المناخ الصحافي العام في السعودية وحمايته، وهو نفذ رؤيته بلغة تصالحية حذرة، تُحقِّق الهدف، ولا تستفز الناس والدولة. الأكيد أن تاريخ الصحافة السعودية سيذكر للراحل تركي السديري أنه استطاع ترسيخ الدور النقدي للصحافة، والمساهمة في دفع عجلة تنمية المجتمع السعودي وتطوره إلى أمام، والأهم أنه ترك إرثاً مهنياً ساهم في بناء دور الصحافة المحلية. رحم الله الرجل النبيل أبو عبدالله.
مشاركة :