النسخة: الورقية - دولي لا تغيب عن بالي مشاهد الصفوف الطويلة التي يقف فيها الناس لساعات أحياناً ليحين دورهم في الدخول إلى هذا المتحف أو ذاك، طبعاً تلك المشاهد المؤنسة لمن هم مثلنا لا تحدث في المدن العربية للأسف بل جلّها يتراكم في الذاكرة من زيارات سنحت إلى عواصم ومدن أوروبية تشكّل فيها الثقافة جزءاً لا يتجزأ من السياحة العامة، فما أن تدخل الفندق، أي فندق سواء أكان من فئة النجوم الخمس أو أقل من ذلك بكثير حتى تطالعك الكتيبات الإرشادية التي تدلك على المتاحف العظيمة والكنائس القديمة ودور الأوبرا والمسارح ومعارض الرسم والنحت والمنازل التي سكنها يوماً عظماء المبدعين في المجالات الأدبية والموسيقية وسواها من فنون ترتقي بالكائن البشري إلى أعلى مُهذبةً نفسه وروحه مُشذبةً فكره ومشاعره مانحةً إياه آفاقاً لا متناهية من السحر والجمال مُحرّضةً على التماهي والتماثل مع أولئك الكبار الذين عبروا هذا الكوكب ذات يوم وحفظت لهم شعوبهم ودولهم ذكراهم وإنجازاتهم وأقامت على أسمائهم الحدائق والساحات العامة. لا ننسى في إحدى زياراتنا إلى مدينة سالزبورغ النمسوية البيت الذي عاش فيه عبقري الموسيقى موتسارت ردحاً من الزمن، وجعله النمساويون محجة ومتحفاً يتمكن زائره من مشاهدة الكثير من مقتنيات ذاك المبدع ومن النوتات التي خطها بيده، والمشهد نفسه يتكرر من متحف كافكا في براغ إلى مايكل آنجلو ودافينشي في فلورنسا إلى اللوفر الفرنسي العظيم الحاوي جزءاً من ذاكرة البشرية جمعاء إلى الارميتاج الروسي بجناحيه الصيفي والشتوي إلى مطارح أخرى كثيرة عرف أهلها كيف يحفظون إرثهم الابداعي ويحرصون على ذاكرتهم الجماعية ويكرمون فنانيهم بأحسن ما يكون التكريم، وكلها مطارح تخصّب الذاكرة والمخيلة وتفتح في الذهن ألف شرفة على فتنة خلاقة لا يحدها حدٌّ ولا تابوهات. لحسن الحظ بدأت بعض الجهات المعنية في بعض بلداننا العربية إدراك أهمية الجانب الابداعي في حياة الشعوب، وهكذا صرنا نشهد افتتاح متحف هنا ودار أوبرا هناك، لكن ومن دون تعميم ظالم لا يزال هذا الأمر في معظمه فولكلورياً بعض الشيء أو من باب رفع العتب والقول إننا أقمنا داراً للفن أو بيتاً للشعر...الخ، بينما المطلوب أن تغدو الفنون الابداعية جزءاً عضوياً من حياتنا اليومية وليست مجرد مظهر للزينة والاستعراض ولا مجرد وسيلة للتسلية والترفيه وهذا الأمر لا يتأتى بيسر وسهولة بل عبر خطة طويلة الأمد تضع نُصب عينها أن الإبداع الإنساني في الآداب والفنون علامة أساسية من علامات تقدم الشعوب، بل ومساهم فعّال في تهذيب النفس البشرية وتخليصها من الميول التي قد تقودها إلى حالات من التطرف والتشدد ورفض الآخر، لأن الفنون في جوهرها تمثل هوية إنسانية جامعة بمقدار ما هي خاصة بهذا الشعب أو ذاك. المهم برأينا أن تبادر الجهات المختصة إلى اعتماد الفنون الابداعية على أنواعها كمواد دراسية منذ السنوات الأولى وأن تكون العلامات التي تُمنح للتلميذ على تلك المواد علامات أساسية تساهم في نجاحه أو رسوبه، كما ينبغي بثّ نوع من التوعية الأسرية بحيث يدرك الأهل أن العملية الابداعية ليست ترفاً ولا نوعاً من الكماليات بل ضرورة من ضرورات الحياة التي تساهم في تقدم الفرد والجماعة على السواء، والأمر الآخر الذي نرجو أن نبلغه يوماً هو إدراك قيمة مبدعينا الكبار في شتى الفنون الإنسانية العميقة والراقية وتكريمهم وهم على قيد الحياة والإبداع بدل انتظار ساعة رحيلهم لوضع أوسمة على نعوشهم لا تسمن ولا تغني، والأهم الحفاظ على إرثهم الابداعي وتعويد الأجيال المتعاقبة على احترام الذاكرة الابداعية والحرص عليها واعتبارها نوعاً من الثروة القومية التي لا ينبغي التفريط بها أياً كانت الظروف، ومحاربة النظريات الجاهلة التي تعتبر الفن مجرد رجس من عمل الشيطان، وليكن معلوماً أن شياطين الإبداع تقود دائماً إلى فراديس خلابة.
مشاركة :