النسخة: الورقية - دولي عطفاً على ما ختمنا به هذه الزاوية قبل أسبوعين، صار لزاماً علينا، بفعل الدرْك الأسفل الذي بلغته أوضاعنا العامة، التذكير بالبديهيات ولزوم ما لا يلزم، إذ إن ما بات من المسلَّمات لدى الأمم والشعوب الأخرى لا يزال عندنا موضع جدل بيزنطي ونقاش عقيم لا يوصل إلى نتيجة مرضية أو بر أمان. يكفي أن نتابع مواقع التواصل الاجتماعي والنقاشات التي تدور عبرها وما تتخلله من لغة منحطة ومبتذلة، لنكتشف المستوى الثقافي والمعرفي المتدني الذي وصلت إليه شرائح لا يُستهان بها من المجتمع، ولنتعرف إلى كمية الجهل التي يبثها البعض، تارةً باسم الدين وطوراً باسم العادات والتقاليد. والمستغرَب أن بعض هؤلاء يُهملون ما ركّز عليه الدين الحنيف من حثّ على المعرفة والوعي وطلب العلم ولو في الصين، وعلى ما يتضمنه من تسامح واعتدال واعتراف بالآخر، ليسلطوا توجهاتهم وأفكارهم المؤثرة في قطاعات واسعة على جوانب معينة تحرّض على القتل والقتال، علماً بأنه كانت لها ظروفها التاريخية والموضوعية. لننح جانباً ما بلغناه من فرقة وتشظٍّ وتصدعات هائلة أصابت الجسد الإسلامي عموماً والعربي خصوصاً، وهي قطعاً ليست وليدة المصادفات، وإنما نتاج تفاعل بين مطامع الدول الكبرى، التي لا يهمها سوى مصالحها الاستراتيجية مهما تشدقت بشعارات الحرية والديموقراطية، وواقع الحال المزري الذي بلغناه نتيجة لفشل الأنظمة ومعارضيها على السواء في تقديم حلول ناجعة لأزماتنا وابتكار خطط مستقبلية للتنمية والنهوض بالمجتمع واللحاق بركب العصر، إذ مقابل الكم الهائل من فتاوى التباعد والتفريق والحضّ على الكراهية ورفض الآخر وإقصائه وإلغائه والتلهي بقشور الأمور، على مثال حكم دخول الحمام بالقدم اليمنى أم اليسرى، ولا نقع على فتوى واحدة تحثّ على طلب العلم والمعرفة والدخول في العصر من باب الإنجازات الهائلة التي بلغها العلم والتكنولوجيا المعاصرين، لا بل إن البعض يحرّم هذه التقنيات التي يعود لاستخدامها في نهاية المطاف. لا نود الدخول في سفسطة مع أحد، جلّ ما نحاول قوله هو ضرورة تجاوز المنطق الجاهلي الذي يريد التحكم بعقولنا ليسيّرها كما يشاء، فيما المطلوب أن تكون عقولنا ملكاً لنا لا لسوانا، وأن نسخّرها في سبيل نهضة مجتمعاتنا وتقدمها ووحدتها واستقرارها. ومن أهم علامات تقدم الشعوب هو ما بلغته في مـجالي الآداب والفنون، ولا ننكر أن لدينا قامات إبداعيـة شـاهـقة في المـجاليـن لـكنها تعاني ما تعانيه من رفض وإقـصاء وتحـريم وتجريـم، فيما الواجب هو العـكـس تماماً، نظراً للـدور الهام والمحوري التي تلعبه الآداب والفنـون في دفع الشعوب نحو المـسـتقبل. كلُّ ما بلغته الـبـشرية بـدأ بـحـلم، والمبدعون أدباً وفـناً هـم أول الحـالميـن، فلـماذا يـحـاول البعض إقـفال أبواب المخيلة والحـجر حـتـى على الأحـلام؟ ليست مصادفة أن الأمم المتقدمة تفاخر بمبدعيها من أدباء وفنانين وتفرد لهم المساحات الواسعة للتفكير والتعبير وتتيح لهم إمكان التفرغ كي لا تتشتت جهودهم بين عملهم الإبداعي واللهاث وراء لقمة العيش، بينما نرى المبدع في مجتمعاتنا مقموعاً مرذولاً مهمّشاً، وإذا ما قدّمت له السلطة شيئاً فبهدف إسكاته أو استمالته إلى جانبها، علماً بأن الحرية هي صنو الإبداع، ولا يمكن مبدعاً أن ينفع مجتمعه وشعبه وإنسانيته جمعاء ما لم يكن حراً، والفنون التي يظنها البعض ترفاً أو ترفيهاً أو مجرد كماليات يمكن الاستغناء عنها، هي من ضرورات العيش، إذ لنتخيل للحظة واحدة هذا الكوكب بلا موسيقى وشعر ورواية وفلسفة ورسم وغناء ومسرح وسواها من إبداعات تجعل الحياة أخفّ وطأة وتقلّص نزعات العنف الغرائزية الحيوانية الكامنة في النفس البشرية، إذ ليس مثل الفنون سبيلاً لتطهير الكائن البشري من آثام وأدران كثيرة والارتقاء بإنسانيته إلى أعلى والابتعاد به عن العنف الذي يكاد يطيح ببلادنا ويجعلها هباءً منثوراً. زاهي وهبي
مشاركة :