قد تكون القطيعة بين الإسلام والجاهلية قطيعةً تامة في مجالي العقائد والشعائر، لكن من جانب آخر، فإنها لم تكن كذلك بالضرورة في منظومة التقاليد والأعراف التي كانت تدير الحياة الاجتماعية في البيئة العربية قبل الإسلام، فالعرب قد اشتهروا بمنظومة من الأخلاق ومن القيم والعادات التي أقرَّ الإسلام بعضها لصلاحها القيمي وفائدتها المجتمعية، والأهم أن العرب الجاهليين نتيجة الظروف القاسية التي كانوا يعيشونها كانوا يتمسكون بهذه "القوانين المنظمة" لحياتهم المجتمعية ولا يتهاونون في تطبيقها، مما يعكس نمطاً ما من المدنية تفتقدها مجتمعاتنا العربية المعاصرة. هل تذكرون دار الندوة؟! تلك الدار التي تصورها أفلامنا السينمائية الهزلية مظلمة ومخيفة، ومليئة برجال غلاظ، ذوي حواجب كثيفة وأصوات جشَّاء وضحكات بلهاء، أظن هذه الدار كان يتم بها مناقشة الشأن العام بمسؤولية وتداولية أكثر مما يدور في الغالبية العظمى من برلماناتنا الشكلية المعاصرة، فلم يكن في مكة زعيم ملهم طلباته مجابة وآراؤه تشريع، بل كان العرب الجاهليون يفتخرون أن قريش قبيلة لقاح، أي لا ملك لها، وهي نزعة مناهضة للاستبداد تذكرنا بالديمقراطية الأثينية، والتي وإن كانت إقصائية بشأن العبيد والنساء والغرباء، لكنها كانت استيعابية لكافة المكونات المجتمعية في صيغة المواطنة أو صيغة القبلية، كما كان التزام المتداولين في تلك الدار بالأعراف والتقاليد العربية كقواعد منظمة للحياة الاجتماعية العربية قطعاً يفوق التزام النخب السياسية المعاصرة التي تتلاعب بالقوانين وتفصل الدساتير وفق أهوائها ومصالحها، حتى أفقدت مجتمعاتنا استقرارها وقيمها المدنية. مثالٌ آخر في ليلة الهجرة، حين خرج النبي صلى الله عليه وسلم من بيته وهو يحثو فوق رؤوس المشركين التراب ويتلو قوله تعالى "وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون". كلنا يذكر هذه الواقعة، وكيف بات المشركون ليلتهم في انتظار خروج النبي صلى الله عليه وسلم لكي "يضربوه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه بين القبائل"، لكن الذي لا يلفت نظرنا في هذه القصة الذائعة هو لماذا بات المشركون ليلتهم أصلاً خارج الدار، ولماذا انتظروا ولم يقتحموا هذه الدار ليقتلوا النبي صلى الله عليه وسلم في فراشه كما كان سيفعل أصغر ضابط أمن في أي بلد مسلم معاصر في سبيل اعتقال أي شخص، وليس نبياً يبشر بدين جديد "يهدد السلم الاجتماعي ويقلب نظام الحكم" في مكة؟! ولماذا لم يقم المقتحمون بعد ذلك بقتل علي بن أبي طالب انتقاماً لدوره في تضليلهم ثم يعلنون أنه قتل "في تبادل لإطلاق نار" أو لماذا حتى لم يعتقلوه ويعذبوه لإجبار النبي صلى الله عليه وسلم على تسليم نفسه للمشركين؟! ربما إحدى العادات العربية "الجاهلية" التي نحن في حاجة ماسة إليها في مجتمعاتنا "المسلمة" المعاصرة هو أنه في أثناء الحروب والنزاعات القبلية، إذا استعر القتال وعظمت الخسائر وكادت المعركة أن تودي بالفريقين يقف "حكماء" من كلا الجانبين ليصيحوا في المتقاتلين "البقية.. البقية"، أي فلنوقف القتال حفاظاً على ما تبقى من الطرفين، ولنبحث عن وسيلة أخرى لتسوية النزاع لأن القتال يبدو غير قادر على حسمه. ألا تفتقد مجتمعاتنا الآن "حكماء جاهليين" في سوريا وفي اليمن وفي ليبيا وفي غيرها من البقاع يهتفون بالمتقاتلين والمتنازعين "البقية البقية"، ألم نعد الآن في أمس الحاجة إلى إحياء هذه السنة الجاهلية لكي نوقف صراعا أصبح النصر فيه -وإن تحقق- غير مجدٍ لأي من أطرافه. في مثل هذه الفوضى الدامية التي تمر بها منطقتنا أرى أن إحياء بعضٍ من قيم وأخلاق الجاهلية هذه سيكون مفيداً لا شك. فحاجتنا إلى قواعد منظِّمة لحياتنا الاجتماعية تكون محل توافق واسع وتطبيق صارم من الجميع هي مسألة مصيرية لاستعادة مدنيتنا المفقودة، كما أن احترام حد أدنى من قيم التشاوية والاستيعابية وحرمة المجال الخاص والحريات الشخصية ومن عقلانية ومسؤولية حتى في ظل استعار الصراعات هي فضائل "جاهلية" يجب إعادة إحيائها لإنقاذ ما تبقى من مجتمعاتنا. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :