قد يكون السبب البارز لضمور الجوائز الأدبية وتراجع اهتمام القرّاء بأخبارها هو سطوة الجائزة العالمية للرواية العربية على المشهد الأدبي، وخطف الأضواء وفلاشات وسائل الإعلام، والمنابر الثقافية، وقد يكون لارتباط اسم الجائزة بالـ"مان بوكر" -تلك الجائزة البريطانية العريقة- دور لهذه السيطرة، إلا أن هناك عوامل أخرى لا يمكن تجاهلها. أهمها، ضعف المنتج الروائي العربي فنياً وليس كمّاً مما يجعل تصعيد المنافسة في مسابقات مختلفة أمراً متعذراً، لا سيما إذا أخذنا في الحسبان قِصر دورة هذه الجوائز وعدم توازيها مع المدة التي تتطلبها الحالة الإبداعية في العالم العربي لإنتاج أعمال ذات قيمة فنية. فَلَو كانت دورة هذه الجوائز أطول (3 أو 4 سنوات مثلاً) لكانت المنافسة محتدمة أكثر، وذات قيمة وموثوقية كفيلة بأن تقدم إضافة حقيقية لسمعة الرواية الفائزة، عِوَض أن تكون مجرد جملة مبتذلة توضع بشكل برّاق ولافت على غلاف الرواية. إحدى هذه الجوائز التي تزاحم مثيلاتها بشكل خجول هي جائزة الشيخ زايد للكتاب، حيث أعلنت عن العمل الفائز لفرع الأدب بعد خمسة أيام من إعلان البوكر عن فائزها، إلا أن الزوبعة التي أحدثتها "موت صغير" غطت على الجائزة الأخرى وفائزها الأديب اللبناني عباس بيضون وروايته "خريف البراءة"، وهي التي لم تحتاج أصلاً لزوبعة حتى تكون في كواليس المشهد الثقافي. بدءاً بالعنوان، فإن حضور رمزية الفصول الأربعة في الأدب ليس بالجديد أبداً. فهي قديمة وأمثلتها غير قابلة للحصر، ولذلك رمزياتها المضمّنة باتت معروفة وقد تكون مبتذلة أحياناً؛ فالربيع يرمز للحب والأمل والصِبا، بينما يختبئ خلف الشتاء اليأس والقنوط والألم والمشقة والوِحدة، في حين يكون الصيف -وهو الأقل ظهوراً في الأدب- موسماً للراحة والحريّة والامتلاء بالنفس، وأخيراً كما في هذه الرواية يكون الخريف رمزاً للحصاد والتغير والنُضج والحزن وبدء الانحدار استعداداً لدخول الشتاء. فهذا الوسم يوطّئ لمحيط وبيئة ما ينوي العمل قوله، وهو قصة ابن المجرم مسعود الذي خنق زوجته وهرب ملتحقاً بجماعة إرهابية في سورية، مخلفاً وراءه إشاعة وجود رجل آخر مع زوجته قبل أن يقتلها، وطفله غسان الذي أصبح ابن الخائنة والمجرم. بعد سنوات، عاد مسعود.. وكبر غسان، لكنه كان قد تخلص للتو من الشخص الذي كان عليه. ما يعيب الرواية هو ذاته ما يعيب الأعمال الميلودرامية الأخرى من تصفيحية وقولبة، واحتوائها على شخصيات نمطية أحادية بعضها يمثل الخير المحض والآخر الشر المحض، وغالباً ما تكون هذه الأعمال سطحية وخالية من أي حدة ذهنية، حتى بات مصطلح ميلودراما-في السياقات النقدية الحديثة- مصطلح يستخدم لازدراء العمل أو الانتقاص منه. ومن خلال القراءة الأولى تظهر بوضوح ميلودرامية هذا العمل حيث الشخصيات التقليدية كغسان اليتيم المعنف في صغره، والأب مسعود الإرهابي المسخّر للدين في خدمة مصالحه، وبقية الشخوص التي كانت غير مكتملة الملامح. إضافة إلى ذلك، لا زالت الكثير من الروايات العربية -كما هذه الرواية- تفشل في تجنب الشخصيات القارئة والمثقفة، مما يخبرنا أن الروائي العربي لا زال غير قادر على التملص من شخصيته ومنع تسرب جزء منها، وتقمص شخصيات مغايرة بالكامل في كتاباته. قد تكون الحسنة الوحيدة للأعمال الميلودرامية هو قدرتها على تكثيف الجانب العاطفي، وتصعيد حساسية القارئ للشخصيات ليرتبط ويتعلق بها، وقد يكون ذلك هو السبب وراء رومانسية معظم أعمال هذا الجنس الأدبي. إلا أن عباس بيضون لم يستطع من ربط قارئه بشخصيات عمله، بالذات غسان الذي أراد له أن يكون شخصية تستحلب تعاطف القارئ، وذلك بسبب قصر العمل مع كثرة ما يريد الراوي قوله، مما سبّب اطراداً كبيراً في تسارع العمل وإخلالاً أكبر لتكثيف اللحظة وتفاعل القارئ مع طفولة غسان التي يفترض لها أن تكون مؤلمة، وكانت وتيرة الأحداث عالية ومتلاصقة دون تمهيد للأحداث المحورية في العمل كانتقاله المفاجئ لـ "فتح"، وقدوم مسعود، وشنق سامي، بل حتى نهاية العمل جاءت مباشرة وسريعة وكأن الرواية انتهت من المنتصف. كان بالإمكان تلافي بعض السقطات في هذه الرواية عبر توظيف أسلوب السرد الذي اختاره عباس بيضون بشكل أفضل، إذ مزج في القسم الأول السرد الرسائلي epistolary مع ما يسميه الفرنسي جيرارد جينيت بالتبئير الداخلي المتعدد، أي أن يكون هناك أكثر من سارد لنفس الحدث ولكن من زوايا متعددة. واختار الراوي العليم كسارد للقسم الثاني. تفوق القسم الأول في الرواية على القسم الثاني، إذ بالرغم من قِصَره، حوى السرد الرسائلي حميمية بسيطة كما أن بإمكانها أن تُوطّد لو أُعطيت مساحة أكبر لتتمدد فيها وتُبطئ الزمن من خلالها. غير أن السرد الرسائلي جاء مونولوغي، وليس حواري، أي أن المرسل إليه -فؤاد- لم تُعرض رسائله إلى غسان في هذا العمل، فَلَو أُضيفت لكان بالإمكان إبراز جانب مختلف آخر من شخصية غسان الطيبة. وكذلك العيب ذاته في التبئير الداخلي المتعدد، علاوةً على قصر الفصول المُبأرة من شخصيات أخرى، غاب تبئير الأحداث من شخصية مسعود والتي تعتبر ثقلاً مضاداً لجانب الخير، فَلَو ضُمّنت رواية مسعود للأحداث من زاويته، لتفادى عباس بيضون هذا الوعي الممسرح من شخصيات الخير فقط، وأضاف عمقاً لشخصية مسعود عبر ذكر دوافعها وقيمها وفلسفتها لئلا تكون مجرد شخصية تقليدية شريرة. أما القسم الثاني من الرواية فقد كان مأساوياً، حيث سخر بيضون كلية علم الراوي لينهي كل شيء سريعاً، جاعلاً الأحداث تتسارع بشكل غير منطقي مما هدّ ما بناه في القسم الأول هداً. لا زالت الرواية العربية تعيد إنتاج نفسها، فالروائي العربي يتابع ما يلقى استحسان عامة القرّاء، ويحاول إعادة كتابة الشيء ذاته حول موضوع آخر يشكل هاجس أو اهتمام أو ذائقة جماهيرية. لا بد أن يعود للثقافة والأدب -بما فيهما الرواية- فعلها الانطوائي والانعزالي، فقيمتها تكمن في فردانية أفكار منتجيها، وأن ذلك عادةً هو ما يجعلها ذَا وزن وقيمة تصمد مع مرور الزمن. حتى ذلك الحين، ستبقى الرواية العربية تنتظر ربيعها.
مشاركة :