النسخة: الورقية - دولي لعل إشكالية تجاوز الفوات التاريخي للعالم العربي هي الإشكالية المؤطرة للفكر العربي الحديث والمعاصر، فقد اخترقته منذ بداياته النهضوية الى الآن طارحة السؤال المربك والضاغط وإن بصيغ مختلفة ومتجددة: كيف نتجاوز الواقع العربي المتخلف ومن أين نبدأ وكيف؟ في الإجابة عن هذا السؤال قال النهضوي السلفي إن الأمة لن تتقدم الا بما تقدمت به سابقاً، فلا يصلح آخرها الا بما صلح به أولها، وما علينا في هذه الحال إلا استعادة مقولات السلف في الفكر والمجتمع والسياسة، سيما أن هذه المقولات كانت السبب في نهوض اوروبا وحداثتها على ما رأى الطهطاوي وعبده والأفغاني والمراش. وهذا ما ظل يراهن عليه المفكر المعاصر الراحل محمد عابد الجابري الذي اقترح تبيئة وتأصيل قضايا الحاضر وقيم الحداثة وأسس التحديث في ثقافتنا ببناء جسور تنقل الحاضر الى الماضي ليتأصل فيه. فالتجديد في رأيه «لا يمكن ان يتم الا من داخل تراثنا بتبيئة المفاهيم الحداثية في التراث وتطويعها على العمل داخله». على الضد من هؤلاء قال الليبرالي العربي ان لا مناص امامنا سوى البدء من حيث انتهت حضارة الغرب التي طرحت افكاراً ومبادئ ومفاهيم غير مسبوقة تكونت وتبلورت في الفكر الغربي نتيجة تطورات جذرية طاولت الإنسان وموقعه في الطبيعة والكون، والعقل الإنساني وأوليته وحريته في النقد والرفض والمساءلة، والنظام السياسي وحدوده ومصدره، والسلطة وشرعيتها وعلاقتها بالفرد والمجتمع، اضافة الى التحولات الانقلابية في الأنماط الاقتصادية والتقنية والإنتاجية والمعرفية، ما شكل عالماً جديداً خرج معه الإنسان من ظلامية القرون الوسطى الى انـوار الحداثـة حيـث تـشكلت مفـاهيم «الفرد» و«العقد الاجتماعي» و«المجتمع المدني»، المفاهيم المؤسسة للمجتمع الحديث الذي يتناقض في مفهومه وجوهره مع مجتمع ما قبل الحداثة، مجتمع الرعاية والوصاية والطاعة والانقياد الى الغيب واللا معقول. وعليه، لا يمكن من منظور الليبرالي العربي، تأسيس حداثتنا العربية وتجاوز تخلفنا المزمن بالنكوص الى ما قبل الحداثة واستحضار قيمها ومبادئها باعتبارها راهنة وعابرة للتطور والأزمنة ولا بد من البدء من حيث انتهت حداثة الغرب. وذهب الماركسي الاقتصادي العربي الى ان حركة المجتمع والتاريخ منوطة بالكامل بالعامل الاقتصادي، فالوحدة العربـــيـــة والديموقـــراطية والتــقــدم والاشتراكية رهن في تصوره بتقدم الاقتصادات العربية وتطور الرأسمالية في العالم العربي. لذا ينـبــغي اذاً قبل كل شيء ان تتقدم الحياة الاقتصادية العربية، بعدها تصبح كل تلك الأهداف في متناول اليد. فلنبدأ من الاقتـــصاد كي لا نـــضيّـــع بـــــــوصلة التقدم والحداثة. اما القومي العربي فألفى مبدأ الحداثة في الوحدة العربية، اذ من دون هذه الوحدة وفي ظل التجزئة القطرية الراهنة سيستمر التخلف التاريخي ويستحيل تأسيس مجتمع عربي متقدم وقادر على الاضطلاع بالمهمات التنموية المنشودة. من هنا، في نظره يجب البدء بتوحيد العرب، المنطلق الضروري الممهد للحداثة، والذي يجعل التطلع نحوها امراً ممكناً. خلافاً لأولويات الخطاب القومي، رهن الخطاب الطبقي الحرية والمواطنية والقومية وإنهاء الجور التاريخي اللاحق بالمرأة العربية بالعمل على اسقاط المجتمع الطبقي، إذ طالما بقي هذا المجتمع، لا يرجى اي تقدم في اتجاه الحداثة. الا ان خطاب النقد الثقافي للمجتمع العربي ذهب الى ان الأولوية في العالمين العربي والإسلامي ينبغي ان تكون للتغيير الفكري قبل كل شيء آخر، فالعالم الإسلامي، كما يرى محمد أركون، لا يزال يعيش داخل الإطار الذهني للإسلام القروسطي، وبما ان لا ثورة سياسية من دون ثورة فكرية تنويرية تحتضنها وتشق لها الطريق، فقد آن الأوان للخروج من العصر الإيديولوجي والدخول في العصر الإبستمولوجي المعرفي الاستكشافي المحض بأرخنة المعرفة الخاصة بالفكر الديــنــي، فمن هنـاك تبـدأ الحداثة الحقيقية. من المنظور الثقافي اياه اعتبر هاشم صالح تحرير الروح الداخلي الشرط الأول والمسبق لكل تحرير، لأنه من دون هذا التحرير تصبح الأمة عاجزة عن الانتصار في كل معاركها التنموية او السياسية او حتى العسكرية. على عكس هذا التصور الذي شدّد على البدء بتحول إبستمولوجي جذري في الفكر العربي يذهب الى حد الإصلاح الديني، رأى سلامة كيلة في «العلمانية، المعنى والإشكالية في الوطن العربي» 2014 أن الأزمة التي يعيشها الفكر العربي لا ترتبط بعدم تحقق إصلاح ديني. ففكر الحداثة كان ممكناً من دون الإصلاح الديني كما اشّرت التجربة الأوروبية، وقد أبانت هذه التجرة عن إمكانيات لانتصار الحداثة دون اصلاح ديني، وعلى رغم رفض المؤسسة الدينية، ووقوفها مع الطبقات المسيطرة ضد كل الفكر الحداثي، كما في فرنسا وألمانيا. فالمشكلة اذاً ليست في عدم تحقق الإصلاح الديني، بل انها في مساحة اخرى لا بد من البحث فيها، وبهذا المعنــى إن الإصـلاح الديني لاحــق لانتصار الحـداثـة وليـس مدخلاً لها. ومن هنا ان الفكر الحداثي في رأي كيلة يجب ان يعيد حيويته وفاعليته ويؤسس طريق الحداثة بدل ان يلقي حل الأزمة على البنية الدينية ويهرب الى الأمل في اصلاح ديني كي يجد له مجالاً للفعل. هذه التناقضات المربكة في مقاربة سؤال الحداثة تكشف بما لا يقبل الجدل اننا ازاء «ازمة مجتمع» بقدر ما نحن ازاء «ازمة فكر» في تعامله مع اشكال الحداثة. ازمة مجمتع لم يجد طريقة الى الاندراج في حركة العصر والانخراط في تحدياته الاقتصادية والاجتماعية والمعرفية والثقافية. الا ان في تعدد التصورات وتناقضها دلالة على دينامية الفكر والمجتمع على السواء في البحث عن افق خلاص، لا بد أن يتبلور ويفرض نفسه في خاتمة المطاف. * كاتب لبناني
مشاركة :