من المؤكَّد ضَعْفُ مخرجات التربية والتعليم العام في بلادنا، ففي مسيرةٍ عمليَّة أنهيتُها عام 1433 هـ بخدمة قاربتْ أربعة عقود معلِّماً فمشرفاً تربوياً أنجزتُ خلالها بملاحظةٍ ميدانيَّةٍ وبتشخيصٍ علميٍّ للتعليم العام مقوِّماً مدخلاته فعمليَّاته فمخرجاته دراساتٍ وأبحاثاً وأوراقَ عملٍ ونشراتٍ تربويَّة أثبتتْ ذلك الضَّعْف، فقلَّما رأيتُ آنذاك جانباً مضيئاً يناغم طموحات الوطن ويتناسب مع بذله على التعليم، وبرزتْ واضحةً أسبابُ هذا التردِّي والإخفاق بنظامٍ تعليميٍّ لا يتجاوز اللوائح والأدلة والخطط إلى التطبيق الميدانيِّ إلاَّ مجاوزة إعلاميَّة؛ لذلك أوقفتْ معظم المشاريع التطويريَّة قبل استكمال تطبيقاتها ميدانيّاً، وبمعلِّمين بمهنيَّة متدنيةٍ إعداداً وتدريباً وانتماءً، وببيئة صفيَّة افتقدتْ محفِّزات التعلُّم والتعليم، وبمناهج دراسيَّة تجاذبتها توجُّهات الأدلجة والتطوير، وأعدَّتْ لتراعي متوسِّطي القدرات والمهارات بما يحبط ذوي القدرات والمهارات الأعلى فتخبو قدراتهم وطموحاتهم وتتراجع مهاراتهم ومنجزاتهم، مناهج انكشف ضعفُها وقصورُها باستكمالها في الملتقيات التدريبيَّة لطلاَّبنا المتنافسين مع طلاَّب الأولمبيادات الدوليَّة، كاشفين بمنجزاتهم فيها أنَّ صعوبة المواد العلميَّة المنشَّأ عليها طلاَّبنا ما هي إلاَّ شائعة معلِّمٍ خامل ونظام غافل، وبيَّنتْ ضعف الكفايات المهنيَّة والتربويَّة لمعلِّميهم مقارنة بمدرِّبيهم استعداداً للمنافسات الدوليَّة، وكشفت قصور البيئات التعليميَّة في مدارسنا مقارنة بالبيئة التدريبيَّة للملتقيات المهيِّأة لتلك المنافسات بما لا يتناسب مع ضخامة دعمها الماديِّ. إخفاق فتردٍّ ما زالا قائمين ويُعزيان كنتيجتين سلبيَّتين للإدارة الوسطى المتمثِّلة بإدارات التربية والتعليم. ومن المؤكِّدات التي لا تتطلَّب براهين ولا تحتاج لإثباتات الآتي: * أنَّ الطلاَّب يختلفون بقدراتهم ومهاراتهم وبطموحاتهم وجهودهم فيتفاوتون فيها تفاوتاً كبيراً يصنِّفهم في شرائحَ ثلاث أعلاها تضمُّ القادرين على المنافسات الدوليَّة فالوصول إلى أعلى المستويات واستكمال تعليمهم الجامعي في أفضل جامعات الدنيا والتفوُّق على غيرهم من طلابها، وأدناها تضمُّ أولئك الذين لا يتمكَّنون من استكمال تعليمهم العام في مستواه القائم وإن أكملوه ففي غفلة من التقويم الحقيقيِّ لتحصيلهم الدراسيِّ أو برغبة من النظام التعليميِّ المتردِّي المخفق بتمريرهم في مساراته ومراحله، وفيما بين هاتين الشريحتين شريحةٌ وسطى هي دون الأولى وأعلى من الثالثة. * أنَّ المعلِّمين يختلفون فيما بينهم بقدراتهم ومهاراتهم المهنيَّة والتربويَّة وبجهودهم وإخلاصهم وجديَّتهم؛ اختلافات تعزى لخصائصهم النفسيَّة ولمعرفتهم بالخصائص النفسيَّة لطلاَّبهم وفق مراحلهم العمريَّة والدراسيَّة، ولإعدادهم المهنيِّ ولتدريبهم التربويِّ على رأس الخدمة التربويَّة، ولاختلافاتهم بمواقفهم من التغيير والتطوير المتطلِّبين جهوداً وأعباءً ما اعتادها المعلِّم الراكن إلى المسار النمطي التلقيني الخامل، اختلافات بين المعلِّمين كبيرة جداً تصنِّفهم في شرائح ثلاث أعلاها تضمُّ التربويِّين الواعين بمتطلَّبات مهنتهم المستكملين إعدادهم مهنيّاً بجهودهم الذاتيَّة وبالتدريب التربويِّ المتاح، المتفهِّمين الاحتياجات النفسيَّة لطلاَّبهم ومراعاتها تربوياً بحلِّ مشكلاتهم الأسريَّة والمجتمعيَّة والمدرسيَّة، المجيدين استراتيجيَّات تنمية التفكير وتطبيقها بعمليَّات التعلُّم والتعليم، الممارسين أساليب التقويم التربويِّ المتنوِّعة وفق متطلَّبات التعليم الحديث، المهيِّئين بجهودهم الشخصيَّة بيئاتٍ تعليميَّة جاذبة، المقبلين على مهنتهم بشعور يخفِّف معوِّقاتها ويذلِّل صعوباتها، فيما تفتقد الشريحة الدنيا كلَّ أو معظم مميزات الشريحة العليا، بل وينتج عمَّن هم في الشريحة الدنيا مشكلاتٌ نفسيَّة وتعليميَّة وتربويَّة لطلاَّبهم ولمجتمعهم المدرسيِّ، وغالباً ما يعاني أولئك إحباطاً وشعوراً بالفشل المهنيِّ يعزونه تغطيةً لانتقاص حقوقهم، يقاومون التغيير والتطوير لعجزهم عن الترقِّي بذواتهم وبأهدافهم وبأدائهم، وفيما بين هاتين الشريحتين شريحةٌ وسطى تعدُّ أفضل من الشريحة الدنيا وأقلّ سلبيَّاتٍ منها، وتأتي دون الشريحة الأعلى بإمكاناتها وبخصائصها وقدراتها ومهاراتها. * أنَّ أولياء أمور الطلاَّب يختلفون فيما بينهم بقدراتهم ومهاراتهم التربويَّة المساندة لدور المدرسة، وبطموحاتهم بأبنائهم وبأدوارهم بدعمهم وحفزهم لاستثمار طاقاتهم وقدراتهم بعمليَّة التعلُّم والتعليم، وبقدراتهم على تقويم تعليم أبنائهم وعلى التعاون مع مدارسهم، اختلافات كبيرة جدّاً تصنِّفهم في شرائح ثلاث أعلاها تضمُّ الآباء الواعين بأدوارهم وأدوار مدارس أبنائهم، الطامحين بأن يتعلَّم أبناؤهم تعليماً جادّاً حقيقيّاً يعدِّهم للحياة ولخدمة الوطن مدركين لذواتهم ومستقلِّين بقراراتهم ومتحمِّلين للمسؤوليَّة تجاه أنفسهم وأسرهم ومجتمعهم ووطنهم، وأدنى هذه الشرائح الثلاث أولئك الآباء الذين لا يعنيهم تعليم أبنائهم، المنشغلون عنهم بأعمالهم أو بمتعهم، والمنصرفون عن أدوارهم الأسريَّة لدرجة عدم معرفتهم بمدارس أبنائهم أو بمراحلهم أو بصفوفهم الدراسيَّة، فضلاً عن اهتمامهم بمستوياتهم التحصيليَّة وبمشكلاتهم الدراسيَّة، لا يتعاونون مع مدارس أبنائهم لعدم قدرتهم على ذلك أو لعدم رغبتهم بذلك، وفيما بين هاتين الشريحتين شريحةٌ وسطى هي بإيجابيَّاتها وسلبيَّاتها دون الأولى وأعلى من الثالثة. وتتلخَّص المؤكَّدات أعلاه بأنَّ نسبةً كبيرة من طلاَّب التعليم العام غير قادرين على أن يتعلَّموا، وأنَّ نسبة كبيرة جدّاً من معلِّمي التعليم العام غير قادرين على أن يُعلِّموا، وأنَّ نسبة كبيرة أيضاً من الآباء غير قادرين على النهوض بأدوارهم تجاه أبنائهم في مجال تعليمهم، نسبٌ لا تختلف عنها نسب الطالبات والمعلِّمات والأمَّهات، وبذلك تشخَّص معوِّقات تطوير التعليم العام تطويراً عامّاً شاملاً ينقله من وضعه المتردِّي المخفق إلى مستوياتٍ مماثلة في كوريا الجنوبيَّة وسنغافورة وماليزيا، فما الحلُّ: ومِنْ أَينَ يَبْدَأُ تَطْوِيرُ التَّعْلِيْمِ؟، وَكَيْفَ تَكُونُ بِدَايتُه؟، أقول: لعلَّ التطوير يبدأ بوضع مقاييس ومعايير لفرز الطلاَّب والمعلِّمين وتصنيفهم في شرائحهم الثلاث، ومن ثمَّ تخصيص الشريحة الأعلى من الطلاّب بتعلُّمٍ وبتعليمٍ متقدِّمين جدّاً في مدارس أنموذجيَّة تتناسب مع استعداداتهم وقدراتهم، وتمييزهم عن سواهم بالابتعاث وبالتسجيل والقبول في جامعاتنا الوطنيَّة وبالعمل بعد تخرُّجهم، فأولئك هم مَنْ سينهض بالوطن، وتخصيص المعلِّمين من الشريحة الأولى بميزاتٍ حافزة تدفعهم للعمل في هذه المدارس في ضوء أهدافها وأساليبها التعليميَّة، ولا شكَّ في أنَّ الشريحة الوسطى من الطلاَّب ومن المعلِّمين ومن الآباء سيطمحون إلى هذه المدارس الأنموذجيَّة، وفي موازاة ذلك يطوَّر التعليم العام في مدارسه الأخرى بالمتناسب معها ومع طلاَّبها ومعلِّميها، ويطبَّق ذلك في مساريه الأنموذجي والعادي على مدارس البنات، وأحسب أنَّ إدخال مادتي الفلسفة والمنطق في مرحلة التطوير القادمة أمست ضرورة تطويريَّة ملحَّة. ونجاح صاحب السمو الملكيِّ الأمير خالد الفيصل وزير التربية والتعليم بتخصيص ثمانين مليار ريال للسنوات الخمس القادمة لتطوير التعليم فتح آمالاً واسعة لتحقيق ما هو أفضل من طموحاتي هذه.
مشاركة :