التناقضات العربية بين الديموقراطية والحريات

  • 5/27/2014
  • 00:00
  • 21
  • 0
  • 0
news-picture

النسخة: الورقية - دولي تظل معضلة النهضة العربية محكومة بالموقف من الحرية، وهي مفهوم أكبر من الديموقراطية بخاصة تلك التي تُحصر في طابعها الأداتي والسياسوي. فالحرية هي أُس حقوق الإنسان بمضمونها القانوني والدستوري، والتي تُفصّل في عدد من الحريات مثل حرية التعبير، وحرية التفكير، وحرية العقيدة. والحرية هي ديموقراطية وزيادة - كما يقول المناطقة، وذلك لأن الحرية تمس جوهر الإنسان العربي باعتبارها فلسفة، ورؤية للكون، وموقفاً حياتياً. ويرى بعضهم أن مفهوم «الحرية» بمعناه الشامل، حديث في الثقافة العربية - الإسلامية. فقد اقتصر دوماً على المعنى المضاد للعبودية والرق، أي وضع اجتماعي لا صلة له بحالة عقلية، أو طريقة تفكير، أو رؤية. والدليل على ذلك، أن كلمة حرية لم تتردد في التراث القديم كثيراً، بالمعنى الشامل الذي يعني حرية الاختيار. فالحرية لا تحتل موقعاً متقدماً في النموذج الاسترشادي، في الثقافة العربية الإسلامية، وقد يُفضّل عليها مفاهيم مثل: الوحدة، والاستقرار، والنظام. فالحرية مغامرة وبالتالي، تُعتبر مهددة لكل هذه المبادئ والقيم. تدل كل قرائن الأحوال على أن تداعيات انتفاضات ما يسمى «الربيع العربي» لم تحمل معها تحولات ذات طابع ثوري في مجال حريات التعبير والإبداع رغم كل شعارات التغيير. إذ يبدو أن الانتفاضات الشعبية العربية ابتهجت بالدساتير الجديدة وقوانين الانتخابات، ورأت فيها غاية المرام الديموقراطي. ففي البلدين الرائدين في الخروج على الحاكم الظالم، تونس ومصر، والمتقدمتين نسبياً في ميادين الإبداع الفكري والفني، وفي الحداثة، شرعت القوى المحافظة مبكراً في إشهار سلاح التحريم والتكفير. إذ ابتداءً من معرض «ربيع الفنون» في العاصمة التونسية في صيف 2012 مروراً بفيلم «نوح» وانتهاءً بفيلم «حلاوة الروح» هذه الأيام، اشتعلت معركة الحدود بين حرية التعبير والإبداع مقابل «حماية أخلاق المجتمع». من المعروف تاريخياً أن عداوة المجتمع مع الكنيسة الكاثوليكية في اوروبا، جاءت بسبب محاربتها العلوم الطبيعية. ويخشى المرء أن تخلق المؤسسة الدينية في البلاد العربية - الإسلامية حروباً مفتعلة ضد الإبداع والفنون. فمن الملاحظ، تركيز المشتغلين بقضايا الدين من فقهاء، ووعاظ، ودعاة، على موضوعات بعينها على رأسها الفنون، والمرأة، والربا. وهي نشاطات بشرية يُخشى دائماً أن تتسبب في الغواية، واللهو، والانشغال عن الدين، باعتبار أنها ذات آليات تضعف النفس الإنسانية. لذلك يرى فيها كثير من رجال الدين المهدد الأكبر للأخلاق والعقيدة في بلاد الإسلام. وهي مصدر انتشار البدع، والتي تأتي على رأسها الفنون لأنها قادرة على تخريب ثقافتنا لأنها ممتعة وجذابة. ويرون في الفنون «حصان طروادة» الذي سيهدم حصوننا في معركة الغزو الفكري. وهذا ما يفسر السرعة والحماسة في أحكام التحريم والمنع للأعمال الفنية والإبداعية. وهنا نراهم يشتبكون مع حق إنساني أساسي هو حرية التعبير. ومن البداية تبرر المؤسسة الدينية تدخلها بأنها «حارسة الثقافة». ويجيء رد المعارضين للتدخل، بأن الثقافة حارسة لذاتها من خلال ممارسة حريتها بمسؤولية اجتماعية واعية. ولا يعوز المحافظين الرد الجاهز، وهو أن الحرية ليست مطلقة. ومن هنا يكون الحذر والخطر: من الذي يقيس مساحات الحرية؟ ومن الذي يملك حق تحديد السماح والمنع؟ وكيف احتكر بعضهم هذا الحق ومارسه على الآخرين؟ وما هي ضمانات عدم التسرع في أحكام التكفير والردّة؟ هذا التخوّف مشروع، إذ لم يتوقف خطر سلب الحرية على الحق في التعبير والاستمتاع بالفنون فقط، بل امتد الى حرية العقيدة. وهنا يمكن أن يختلط السياسي بالديني، فعلى سبيل المثال أدخلت الحكومات الديكتاتورية السودانية المتعاقبة موضوع الردّة في الصراع السياسي. فقد اكتشفت تلك الديكتاتوريات آليات التخويف بالشريعة في معاركها السياسية، فأبقت على النص في القانون رغم تناقضه مع الدستور، سيفاً مسلطاً يظهر في أوقات الأزمات. وهذا سبب حكم الإعدام على طبيبة شابة في 11/5/2014. ومن الجدير بالذكر أن السودان هو الدولة المسلمة الوحيدة في العصر الحديث التي أعدمت شخصاً بسبب أفكاره، في حالة الأستاذ محمود محمد طه في كانون الثاني (يناير) 1985. وفي حالات تهمة الردّة غالباً ما تقوم منظمات أهلية بالتصعيد نيابة عن الدولة، وهنا مكمن الخطورة على الحريات. ففي السودان، تبادر «هيئة علماء السودان» بقضايا الحسبة والتكفير، ما يحولها الى «مطلب شعبي». تقود هذه الممارسات إلى العديد من التساؤلات في المسائل الدينية والحياتية التي طرأت في الفترة الأخيرة مع انتشار الظاهرة الدينية. فقد كان من المفترض مع «الصحوة الدينية» والتوق للديموقراطية، أن يتعمق فهم الناس لدينهم وبالتالي تقل الحاجة للوسطاء من الواعظين، والدعاة، والمفتين. كما ازدادت أعداد الخريجين القادرين على الوصول مباشرة الى المعرفة الدينية. وهذا ارتباط غير منطقي بين نمو «تكنوقراطية» دينية أو سدنة للمعرفة الدينية رغم الصحوة، وزيادة التعليم. والخشية أن يكون في هذا التطور المتناقض اتجاه نحو تتجير أو تسليع الدين كما يظهر في وسائل الإعلام. والخطر أن يُحَول الدين إلى مصدر دخل مادي وشهرة، وتديّنٍ شكلاني لا يساعد في إكمال مكارم الأخلاق. فالموجة الدينية الحالية جاءت في قلب سيرورة العولمة وخضعت لظروفها وشروطها شبه الحتمية. وبالتالي فهي تمر بسيرورة علمنة باندماجها في الحياة وفي اليومي. لقد كان من الطبيعي أن تشعر المؤسسة الدينية بوجود خطر يهدد دورها في المجتمع. ولذلك تسعى الفئات الدينية الى مزيد من الهيمنة الثقافية والاجتماعية، حين تدعي أنها تقوم بدور «الحارسة للأخلاق». وهذا خلل كبير في فهم الدين، لأن الأخلاق لا تحتاج في الإسلام الى حرّاس وحِراسة، لأن الله كرّم الأنسان بعقله للتمييز والإدراك، واهتم بالضمير الفردي. ومن هنا أيضاً حكمة التكليف الفردي: و»لا تزر وازرة وزر أخرى». يُعرّف بعضهم الديموقراطية أنها الحق في الخطأ، وطبعاً المقصود بذلك حرية الاختيار مهما كانت النتائج. وهذه هي فلسفة الديموقراطية والتي استندت إلى تاريخ عقلانية عصر التنوير، ومرحلة الإنسانوية التي جعلت من الإنسان أعلى القيم. ونحن لم نستطع حتى الآن، ورغم الانتفاضات الشعبية، ان نرسخ مبادئ العقلانية والإنسانية. وما زال الإنسان العربي المسلم مهدداً بالوصاية الفكرية ولا يمارس حق الاختيار الفكري الكامل، مع تحمل المسؤولية مفرداً. وهذا هو الإنسان الراشد الحر القادر على ممارسة حقوقه وحمايتها، وهنا نقطة بداية الديموقراطية الصحيحة والمستدامة.     * كاتب سوداني

مشاركة :