ليس المقصود بالجمالية كتابة مغلقة تتعالى على القراء، وتقف عند تقنيات التشكيل اللغوي التي هي أشبه بتجارب معملية لا تبالي بالوجدان الإنساني بل تحاول محاكاة مدارس أجنبية شكلانية نشأت في سياقات اجتماعية وثقافية مختلفة عن سياقنا العربي. وأدى هذا الاتجاه إلى انصراف كثر من محبي الأدب في الوطن العربي عن قراءة هذه الروايات، كما يقول علاء الأسواني. وهذا الاتجاه ليس في مصلحة الرواية العربية التي جعل منها مبدعوها ديواناً للعرب، على حد تعبير شيخ الرواية السورية حنا مينه. وأكد الروائي المصري خيري شلبي أننا كعرب في احتياج إلى إعادة صياغة الإنسان العربي، وتساهم الرواية العربية في تحقيق ذلك، فهي تتحدى طغيان التلفاز ووسائل الإعلام وترفض مسخ شخــــصيـــــات المواطنين وتحويلهم إلى نسخ من شخصية إعلانية واحدة تفكر وتتكلم وتسلك بالطريقة نفسها. ويذهب معه مفكرون آخرون إلى أن الرواية الجديرة بالإسم تدعو إلى التفكير والسلوك بطرق إبداعية تختلف عما تقدمه وسائل الإعلام، أي بطرق جمالية. ويجهر عبده جبير من رواد الرواية العربية الجديدة بهذا الاقتناع الفني ويضيف اللغة والتكنيك والإيقاع والمعنى الإنساني، أي كل المفردات الجمالية التي تمتزج عنده وتتلاحم بما يمكن تسميته مجازاً بالموضوع عن مصير الإنسان. كان الحكي في القص العربي عموماً السابق على نشأة الرواية يرتكز على منظور الجماعة المتآلفة، لا على التجربة الفردية التي هي أساس الأعمال الروائية. وفي مصر والعالم العربي نشأت فردية الطبقة الوسطى مع ارتباط المجتمع التقليدي بالسوق العالمية. وكانت هذه الفردية تحاول التحرر من العلاقات الخانقة المختلفة في الأسرة الممتدة الأبوية وضيق الأفق القروي ودونية المرأة وقيود الطائفة الحرفية. ولكنها كانت في المحل الأول ترنو إلى حرية تحطم أغلال التبعية للاستعمار وتلحق بركب الأمم «المتمدينة». فالأسلوب الذي يعبر عن الفرد في الرواية كان أدباً وطنياً قومياً في الوقت نفسه. ولكن الفردية لم تكن في البلاد العربية منطلقة إلى أبعد الآماد مثل الفردية في الغرب؛ فلم تدخل الذات الفردية في صراع تناحري مع الأنماط التقليدية والأدوار الموروثة للشخص الإنساني. وقامت بواكير الرواية العربية جزئياً على القول إن طبيعة العالم موجودة في حبكات الأساطير والحكايات الخيالية. وكانت تبرز نزعة تواصل أشكال السرد السابقة عند جورجي زيدان وأمثاله في البلاد العربية، ثم بعد ذلك عند روائيين أمثال الطاهر وطار وغيره تحوي عناصر من عدم الاحتمال والمبالغة وتضم إلى جانب الحب عناصر من المغامرة والبطولة والأعمال الخارقة والحيل العجيبة. ولاحظ بعض النقاد في «عودة الروح» لتوفيق الحكيم اعتماداً على خلفية بنائية تنتمي إلى الحكاية الشعبية، وعند محمود تيمور في روايته «نداء المجهول» يختلط تصوير الواقع بالبعد الأسطوري والرمزي والرومانسي في آن، أي أن هناك احتفاء بميول أدبية لا تتأثر بمرور الزمان. وعند رواد الرواية العربية في أقطار متعددة بين أوائل القرن العشرين ومنتصفه، لوحظ في البدايات كلها التوازي بين حكي واقع عياني ملموس وسرد عناصر فلكلورية والاستقاء من منابع الأساطير والرموز. وبعد ذلك في «مدن الملح» عند عبدالرحمن منيف، وفي العراق عند غائب طعمة فرمان في رواية «النخلة والجيران»، وفي السودان عند الطيب صالح في «موسم الهجرة إلى الشمال»، وفي تونس عند محمود المسعدي في «السد». ومنذ البداية لم تكن جمالية الرواية العربية وقفاً على عناصر بناء الشكل من إجراءات لغوية وأسلوبية قائمة بذاتها منفصلة عن دلالتها الإنسانية، وليست أشكالاً أبدية للصياغة تضيئها زمرة معينة من الأدوات مثل الاستعارة الموسعة واستعمالات المفارقة والإبهام في الصوت والصورة والإيقاع. ولا تعتبر الصياغة تجسيداً لجوهر جمالي متعال لا يتغير بتغير التاريخ كأنه هندسة أبدية تمتلك نماذج أساسية. ولكن بدءاً من وجهة نظر تراث الحكي العربي للجمالية (للخصوصية الأدبية) كانت الجمالية هي تصوير الحساسية الإنسانية احتفاءً بالعين التي تحس جمال الشكل والأذن التي تطرب للغناء وبعلاقة الحب بين الرجل والمرأة وبتبادل المشاعر بينهما؛ أي إن الحساسية الإنسانية هي حواس مختلفة كيفياً عن حواس الحيوان. ويصل مفكرون محدثون إلى أن الجمالية أساساً هي تطوير طاقات الإنسان الحسية والعاطفية والذهنية والعمل على تفتح قدراته الإبداعية، وليست مجرد زخرفة وأصباغ. وكان من وظائف السرد الأساسية في الرواية العربية إدراج الفرد في النوع البشري ورفعه إلى المستوى الإنساني وتكثيف وعيه بهذا الاندراج. فليس الجوهر الإنساني شيئاً مجرداً باطناً في كل فرد على حدة، بل هو واقع ملموس في مجمل العلاقات الاجتماعية بين الأفراد. كما أن مفهوم جمال النص الروائي لا ينحصر في جمال العبارات والتراكيب؛ حسن اختيار الألفاظ ودقة وانسجام التراكيب وتناسقها، بل هي مجموع ما يبتعثه من أحاسيس ومشاعر ورؤى تعصف بالقارئ وتؤجج حيويته وتوسع نظرته للعالم، أي تفجير ثورة من المشاعر في القارئ؛ دهشة ورغبة ورعشة وقدرة على رؤية الجمال في ما يُحكى، أي قدرة على رؤية انتصار الحياة حتى في روايات الحرب، على رغم قرع السلاح وصرخات الموت وسفك الدماء عندما تكون الحرب المصورة عادلة دفاعاً عن الوطن والحرية والعدالة، مثل روايات الحرب العربية. وتتعلق الجمالية أيضاً بتصوير الشخصيات تصويراً يبتعد عن التصوير التقريري الإخباري المباشر، بل تصوير اتساقها مع مسار الأحداث وتفاعلها مع الآخرين وتسليط الضوء على أفراحها وأحزانها خلال مونولوجاتها الداخلية وحواراتها، فهي تكتسب الجمالية من خصوصيتها وليس من كونها شخصية جاهزة تقترب من أن تكون مثل حجر الشطرنج يحركه المؤلف وفقاً لأدوار من خارجها. وتتوق أحلام الفرد إلى أن تمتلئ فردية بجماعية متفتحة متخلصة من القيود الخانقة الموروثة، جماعية ليست مستوردة أيضاً، فهي لم توجد بعد في أي مكان من العالم ويتعين إبداعها: إنها متخيل جمالي. ويتسع مدى تصوير الرواية العربية للشخصية الإنسانية من فرد العشيرة إلى فرد عائلة الطبقة المتوسطة بذاته الحرة المستقلة المتكاملة وأخيراً إلى الفرد الممزق المهزوم. وقدم الروائيون العرب الممتازون نماذج إنسانية جديرة بالخلود، نماذج ليست منقولة مباشرة من الواقع، بل هي إبداع فني تربط الخاص والعام معاً ربطاً عضوياً، نماذج لا تمثل العادي والمألوف أو المتوسط الحسابي لشريحة اجتماعية، بل تمثل التحديدات الأساسية الحسية والانفعالية والذهنية ذات الطابع الاجتماعي الإنساني يصورها الروائي حينما تبلغ درجة عالية من تفتح لإمكاناتها الكامنة وصولاً إلى وحدة بين السطح والجوهر. نلتقي بهذه النماذج الروائية عند بطلة «الباب المفتوح» للطيفة الزيات، وفي «الزيني بركات» لجمال الغيطاني، و»اللص والكلاب»، و»الطريق» لنجيب محفوظ، و»البحث عن وليد مسعود» لجبرا إبراهيم جبرا و»المتشائل» عند إميل حبيبي، على سبيل المثال. فالنموذج ليس انعكاساً مرآوياً لأصل واقعي، بل هو خلق جديد يستعصي على أن يكون مجموع عناصر أولية مثل الاقتصاد، أو الاجتماع، أو السياسة؛ فبالإضافة إليها يساهم في تكوين ما هو جمالي لغوي إيقاعي. فالبنية الروائية لها خصوصيتها النوعية وقوانينها ومنطقها الخاص، وكلها نابعة من الحياة وتحقق بها الحياة استمرارها وتغييرها وتجديدها. وذلك بطبيعة الحال أفق مثالي يطمح إليه المبدعون. آفاقالرواية العربية
مشاركة :